• ×
الأربعاء 17 أبريل 2024 | 06-04-2024
الأذكار
×

إضاءات حول تدبر القرآن الكريم

0
0
454
 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين،، وبعد:
فقد وفقنا الله -تبارك وتعالى- أنا وزملائي بالاهتمام بتحفيظ القرآن الكريم، فصرفنا جزءاً كبيراً من الجهد لهذا الهدف النبيل على مستوى العالم، وألقيت العديد من المحاضرات والخطب في حفظ كتاب الله -عز وجل- وإتقان تلاوته، وحتى لا يظن ظانّ أن الحفظ وإتقان التلاوة منفصل عن الفهم والتدبر والخشوع؛ ألقيت هذه المحاضرات في إحدى المؤتمرات الإسلامية في الغرب، ووجدت من المناسب أن تطبع حتى يعم نفعها وخاصة لأهل القرآن من حافظيه ومجوديه، حتى لا ينسوا الهدف الأسمى من تلاوة الكتاب العظيم، وإتقان قراءته، وهو تدبر هذا الكتاب، والتفكر فيه؛ المدخل إلى العمل وإصلاح الحياة.
وهي في الحقيقة ذكرى فإن أهل القرآن بحمد الله -عز وجل- لا يمكن أن يقرؤوه ويتقنوه ويضيعوا أعمارهم في حفظه، ثم لا يفهموه ولا يتدبروه.
بل إن هذه الرسالة مفيدة للتذكير بأهمية هذا الأمر لعامة المسلمين، والذين أورثهم الله هذا الكتاب، قال -عز وجل-: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير).
أسأل الله -عز وجل- أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجعله ذخراً لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
أما بعد:
فيا أيها الأخوة الكرام الأحبة، ويا أحباب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حديثنا اليوم -بإذن الله- -تبارك وتعالى- حديث عن التدبر في كلام الله -تبارك وتعالى-، وصدق الله -عز وجل- إذ يقول: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الألْبَابِ)، فالتذكر والتدبر لكلام الله -تبارك وتعالى-، هو مقصدٌ مهم من مقاصد هذا الكتاب العظيم.
فليس من مقاصده أن يُقرأَ، أو أن يُحفَظَ فقط؛ بل أيضاً: اللبُّ والمقصدُ والهدفُ أن يتدبره الإنسان، فإذا تَدَبَّر تأثر، وإذا تأثر تغيَّر وغيّر من حياته ومن شأنه، وصدق الله -عز وجل- إذ يقول: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً)، وقال -تبارك وتعالى- أيضاً: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) أفلا يتدبرون القرآن؟! أم أن هناك مانعاً يمنعهم من تدبر القرآن، وهو انغلاق القلوب والبصائر، والعياذ بالله -عز وجل-.
والتدبر كما قال العلماء: هو النظر في عواقب الأمور، ليس النظر السطحي، النظر الظاهر؛ وإنما النظر العميق لفهم الأسرار والحكم والمقاصد.
قال الميداني: "التدبر: هو التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلام ومراميه البعيدة".
أن يتدبر الإنسان ما في القرآن العظيم من الآيات التي تذكر بيوم القيامة، والبعث والنشور والحساب، والجنة والنار، فكأنه يعيش تلك الأيام، وكأنه يقف تلك المواقف، فإذا به يتأثر، وإذا به يقف بين يديِ الله -تبارك وتعالى-، خاشعاً باكياً متذللاً.
وقد يتوهم بعض الناس أن التدبر هذا خاص بالعلماء؛ العلماء هم الذين يتدبرون القرآن، لأن القرآن ليس بالأمر السهل!! ليس كل الناس يفهمونه!!.
وهذا خطأ؛ فالقرآن كتابٌ مبين، كما سماه الله -عز وجل-، بين واضح يسمعه العامي والمتعلم، والجاهل والعالم، وكلٌ منهم يأخذ منه ما يتأثر به ويفهمه، ويعي مراد الله -تبارك وتعالى- فيه.
ولذلك قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها -كل من يتكلم اللغة العربية ويسمع القرآن يفهم مراد القرآن-، وتفسير لا يُعذر أحد بجهالته -وهو ما يتعلق بالحلال والحرام-، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله".
وهذا التفسير الذي لا يعلمه إلا العلماء، والذي لا يعلمه إلا الله، قليل بالنسبة للتفسير الكثير الواضح، الذي لا يُعذَرُ الواحد بجهالته، وهو الذي سماه الله -تبارك وتعالى- محكماً، كما قال -سبحانه وتعالى-: (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ).
إذاً فالتدبر لكل المسلمين؛ للمتعلم والجاهل، كلٌ يتأثر، وكلٌ يتدبر، وكلٌ يبكي، وكلٌ يخشع عند سماعه لكلام الله -عز وجل-، وهذا يدل عليه الواقع، فنحن نرى المتعلمين، وغير المتعلمين، يتأثرون عند سماع كلام الله -تبارك وتعالى- ويخشعون ويبكون.
ومن أول أسباب التدبر:
1- الترتيل: مما يدعوا إلى التدبر، ويعين على التدبر، أن يقرأ المسلم قراءةً مرتلةً، وما هو الترتيل؟
الترتيل هو: قراءة القرآن بتؤدةٍ وطمأنينةٍ، من غير عجلةٍ؛ هذا هو الترتيل، ومن قرأ هكذا يحصل له التدبر، أما من قرأ بعجلة، فلا يتيسر له التدبر والتأمل والتفكر في كلام الله -تبارك وتعالى-.
قال ابن الجزري -رحمه الله تبارك وتعالى-: "وأما الترتيل فهو مصدر من رتل فلانٌ كلامه إذا أتبع بعضه بعضاً على مُكثٍ وتفهمٍ من غير عجلةٍ، وهو الذي نزل به القرآن، قال -تعالى-: (ورتلناه ترتيلا)، وروينا عن زيد بن ثابتٍ -رضي الله عنه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الله يُحِبُّ أن يُقرأَ القرآن كما أُنزل)) أخرجه ابن خزيمة في صحيحه" ا. هـ.
وكلنا يعرف قصة ابن مسعود -رضي الله عنه- لما قام الليلة في المسجد، فرآه النبي -صلى الله عليه وسلم- من خارج المسجد، فقال: ((من أحب أن يقرأ القرآن غضاً كما أُنزل، فليقرأْهُ على قراءة ابن أم عبد)).
ولذلك نقول: لماذا يتعلم المسلمون قراءة القرآن بالتجويد؟ ولماذا يتعلمون المخارج والصفات؟ والجواب: ليضبطوا القراءة، حتى يقربوا من القراءة الذي نزل بها القرآن على نبينا محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-.
وقد أمر الله -تعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فقال له: (ورَتِّل القُرآنَ تَرتِيلاً)، قال عليُّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "الترتيل تجويد الحروف، ومعرفة الوقوف".
وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "(ورتل القرآن) أي: بَيِّنه"، وقال مجاهد: "تأنَ فيه"، وقال الضحاك: "انبذه حرفاً حرفاً؛ يقول -تعالى- معنى كلامه -: تلبَّث في قراءته، وتمهَّل فيها، وافصل الحرف من الحرف الذي بعده".
ولم يقتصر -سبحانه- على الأمر بالفعل حتى أَكَّدَه بالمصدر، اهتماماً به، وتعظيماً له؛ فقال -سبحانه-: (ورَتِّلِ القُرآن تَرتِيلاً) أكَّده بالمصدر؛ ليكون ذلك عوناً على تدبر القرآن وتفهمه.
وكذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ؛ فعن يعلى بن مالكٍ أنه سأل أم سلمة -رضي الله عنها- عن قراءَة النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ فنعتت له قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فقالت: "كان يقرأ -عليه الصلاة والسلام- قراءةً مُفَسَّرةً حرفاً حرفاً" أي قراءةً بَيِّنةً وواضحةً.
وقالت عائشة -رضي الله عنها-: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ السورة حتى تكون أطول من أطول منها".
وقال الحافظ ابن الجزري -رحمه الله تعالى- في الجواب على سؤال: هل الترتيل مع قلة القراءة أفضل أم السرعة مع كثرة القراءة؟ فقال: "... والصحيح بل الصواب ما عليه معظم السلف والخلف، وهو أن الترتيل والتدبر مع قلة القراءة أفضل من السرعة مع كثرتها؛ لأن المقصود من القرآن فهمه والتفقه فيه والعمل به، وتلاوته وحفظه وسيلة إلى معانيه".
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لأن أقرأ البقرة فأدَّبَّرها وأرتِّلُها، أحبّ إليَّ من أن أقرأ القرآنَ كلَّه هذرمةً".
وسُئل مجاهدٌ عن رجلين: قرأ أحدهما البقرة، والآخر قرأ البقرة وآل عمران في الصلاة، وركوعهما وسجودهما واحد؟ فقال: "الذي قرأ البقرة وحدها أفضل". لأنه تَدَبَّر في كلام الله -تبارك وتعالى-.
وفي صحيح البخاري ومسلم: أن رجلاً قال لعبد الله ابن مسعودٍ -رضي الله عنه-: "إني أقرأ المفصل في ركعةٍ واحدة"؟ فقال عبد الله بن مسعود: "هَذًّا كهذِّ الشعر -أي بسرعة-! إن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تَراقِيَهم، ولكن إذا وقع في القلب فَرَسَخَ فيه نفع".
وقال ابن مسعودٍ -رضي الله عنه-: "لا تنثروه نثر الدقل، ولا تهذُّوه هَذَّ الشِّعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يَكُنْ هَمُّ أَحَدِكُم آخرَ السورة".
قال الإمام الغزالي -رحمه الله-: "واعلم أن الترتيل مستحب، ليس لمجرد التدبر، فإن الأعجمي الذي لا يفهم معنى القرآن يستحب له القراءة والترتيل والتؤدة؛ لأن ذلك أقرب إلى التوقير والاحترام، وأشد تأثيراً في القلب من الهذرمة والاستعجال"، أي: حتى ولو لم يكن الترتيلُ سبباً للتدبر، فهو سبب للاحترام والأدب والتقدير لكلام الله -تبارك وتعالى-.
ومن أسباب التدبر أيضاً:
2- البكاء والخشوع عند سماع كلام الله -عز وجل-: قال الله -عز وجل- مادحاً مثنياً على العلماء: (قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدا ً* وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً). عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "إذا قرأتم سجدة (سبحان) فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، فإن لم تبكِ عين أحدكم فليبكِ قلبه".
وهكذا جاء في الحديث المتفق عليه: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لابن مسعود -رضي الله عنه-: ((اقرأ عليَّ القرآن)). فقال: "يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أنزل"؟! قال: ((إني أحب أن أسمعه من غيري)). فقرأ عليه من أول سورة النساء، حتى وصل إلى قول الله -تبارك وتعالى-: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً)، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((حسبك)). قال: "فنظرتُ، فإذا عيناه تذرفان". أي: بالدموع؛ -عليه الصلاة والسلام-.
وفي الحديث الذي حَسَّنه العراقي في الإحياء، عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((اتلوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا)).
وفي وصف أبي بكر الصدِّيقِ -رضي الله عنه- أنه كان (رجلاً أسيفاً)، أي أنه رجلٌ بَكَّاءٌ، إذا قرأ آيةً من كتاب الله -عز وجل- بكى.
وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: أنه صلَّى يوماً الفجر بالجماعة، فقرأ سورة يوسف، فبكى حتى سالت دموعه على ترقوته -يعني على رقبته- -رضي الله عنه وأرضاه -. وفي روايةٍ: أنه بكى حتى سمعوا بكاءه من وراء الصفوف، رضوان الله -تعالى- عليهم جميعاً.
وقام ناس من أهل اليمن عند أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، فجعلوا يقرؤون القرآن ويبكون، فقال أبو بكر -رضي الله عنه- وأرضاه: "هكذا كُنَّا".
وفي الحديث الصحيح: عن عبد الله بن الشِّخِّير -رضي الله عنه- قال: "رأيتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يصلِّي؛ وفي صدره أزيز كأزيز المرجَل من البكاء".
وروى البيهقي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "لما نزل قوله -عز وجل-: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ) بكى أهل الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حنينهم بكى معهم، فبكى الصحابة جميعاً، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ((لا يلج النار من بكى من خشية الله))".
وقرأ ابن عمر -رضي الله عنهما-: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ) حتى بلغ قوله -عز وجل-: (يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) فلما بلغ هذه الآية بكى حتى خُنَّ، وامتنع عن قراءة ما بعدها. أي لم يستطع أن يكمل السورة، ولم يستطع أن يتجاوز الآية، من قوة تلك الآية على قلبه.
وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول لأبي موسى الأشعري: "يا أبا موسى، ذَكِّرنا ربَّنا". فيقرأ عليه القرآن.
وعن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه كان إذا أتى على هذه الآية: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) يبكي حتى تبتل لحيته -رضي الله عنه-، من البكاء، ويقول: "بلى يا رب، بلى يا رب".
وذكر ابن الجوزي في سيرة عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد، أنه طلب من ابنه أن يقرأ عليه القرآن، فقال له: "وماذا أقرأ عليك يا أبي"؟ فقال: "اقرأ سورة ق". فقرأ حتى بلغ قوله -عز وجل-: (وجاءت سكرة الموت بالحق) بكى بكاءً شديداً، وفعل ذلك مراراً -رضي الله عنه-.
ولو أردنا أن نذكر قصص الأنبياء والصحابة، والعلماء والصالحين، في بكائهم عند سماع كلام الله -تبارك وتعالى- لطال بنا المقام.
قال ابن القيم -رحمه الله تبارك وتعالى- عند قوله -عز وجل-: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيد) قال ما حاصله: "الناس ثلاثة: فرجلٌ قلبُهُ ميِّت -والعياذ بالله- فهذا ليست الآيات ذكرى في حقه، والثاني: رجل له قلب مستعدٌ لكنه غير مستمع للآيات المتلوة؛ إما لعدم ورودها، أو لوصولها إليه وقلبه مشغولٌ عنها بغيرها، فهو غائب القلب ليس حاضراً فهذا أيضاً لا تحصل له الذكرى، والثالث: رجل حيُ القلب، مستعدٌ، إذا تليت عليه الآيات أصغى إليها بسمعه، وألقى السمع، وأحضر القلب، فهذا القسم هو الذي ينتفع بالآيات المذكورة المشهودة".
هكذا بيَّن الإمام ابن القيم -رحمه الله تبارك وتعالى-، نسأل الله -عز وجل- أن يجعل قلوبنا من القلوب الحية المستعدة لسماع كلام الله -تبارك وتعالى-، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ومما يعين على التدبر كذلك:
3- ترديد الآيات التي فيها معانٍ مؤثرة وقوية: ففي الحديث الصحيح عن أبي ذرٍ -رضي الله عنه- قال: "قام النبي -صلى الله عليه وسلم- بآيةٍ يُردِّدها حتى الصبح، وهي قوله -عز وجل-: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 118]".
وعن تميم الداري -رضي الله عنه- أنه كرَّر هذه الآية حتى الصبح: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) [سُورَةُ الْجَاثِيَةِ: 21].
فتكرار الآية، وخصوصاً الآية التي يتأثر بها الإنسان، ويرى فيها بوضوح التأثير في قلبه، وفي روحه، وفي نفسه؛ وهو مما يعين على التدبر لكلام الله، وهي سنةٌ عن نبينا -صلى الله عليه وسلم-.
وعن عبَّاد بن حمزة -رحمه الله تعالى- قال: "دخلت على أسماء -رضي الله عنها-، وهي تقرأ قوله -عز وجل-: (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ) [سُورَةُ الطُّورِ: 27] -من كلام أهل الجنة يوم القيامة- قال: فوقفتْ؛ فجعلتْ تعيدها وتدعو، فطال عليَّ ذلك فذهبتُ إلى السوق، وقضيتُ حاجتي، ثم عدت وهي تعيدها وتدعو".
ورُويَ عن ابن مسعودٍ -رضي الله عنه-: أنه ردَّد قوله -عز وجل-: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [سُورَةُ طَهَ: 114].
وردَّد سعيد بن جبير قوله -عز وجل-: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [سُورَةُ البَقَرَةِ: 281].
وهي آخر آيةٍ نزلت في القرآن العظيم، وردَّد أيضاً: (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) [سُورَةُ غَافِرٍ: 70- 72].
وردَّد كذلك قوله -تعالى-: (مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [سُورَةُ الانْفِطَارِ: 6].
وكان الضحاك إذا تلا قوله -عز وجل-: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) [سُورَةُ الزُّمَرِ: 16] يُردِّدها إلى السحر.
وعن عامر بن قيس، أنه قرأ في ليلةٍ سورة غافر، فلما انتهى إلى قوله -عز وجل-: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ) [سُورَةُ غَافِرٍ: 18] ردَّدها حتى الصبح.
وعن أبي سليمان الداراني قال: "إني لأتلو الآية، فأقيم فيها أربع ليالٍ، أو خمس ليالٍ، ولولا أني أقطع الفكر فيها ما جاوزتها إلى غيرها". أربعة أيام، وخمسة أيام وهو يتأمل الآية، وينظر فيها، ويعيدها ويكررها.
وقال رجل من قيس، ويكنى أبا عبدِ الله: "بينما ذات ليلةٍ كنا عند الحسن البصري، فقام من الليل فلم يزل في هذه الآية حتى السحر: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ: 34]، فلما أصبح قلنا: يا أبا سعيد! إنك لم تتجاوز هذه الآية سائر الليل؟! قال: أرى فيها معتبراً. ما أرفع طرفاً ولا أردَّه إلا وقع على نعمة". يعني: كلما غمضتُ جفني ورفعته، تذكرت نعمةً من نعمِ الله -سبحانه وتعالى- عليَّ، وما لم يُعلم من نعم الله -تبارك وتعالى- أكثر.
يقف الإنسانُ المتأمل، الإنسان المستيقظ القلب والضمير والعقل، يقف ويتأمل في كلام الله -تبارك وتعالى-.
ومما يعين على التدبر:
4- أن يُحَسِّنَ المسلمُ صوته عند قراءة القرآن، وأجملُ من قرأ بكتاب الله -عز وجل-؛ هو سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-.
روى البخاري ومسلم عن البراء -رضي الله عنه- قال: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرأ في العشاء: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ) [سُورَةُ التِّينِ: 1- 3]. قال: فما سمعت أحداً أحسن صوتاً منه" -عليه الصلاة والسلام-.
وأجمع العلماء -رحمهم الله تعالى- من السلف والخلف، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار، وأئمة المسلمين؛ على استحباب تحسين الصوت بقراءة القرآن، وأقوالهم وأفعالهم مشهورةٌ نهاية الشهرة، كما ذكر ذلك النووي -رحمه الله تعالى-.
وعن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن من أحسن الناس صوتاً من إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله)).
وكان أبو هريرة -رضي الله عنه- يقرأ فيحزِّن بقراءته -رضي الله عنه-.
وفي الحديث الصحيح المتفق عليه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما أذن الله لشيءٍ، ما أذن لنبيٍ حسن الصوت، يتغنى بالقرآن؛ يجهر به)).
قال الحافظ المنذري -رحمه الله-: "أي: ما استمع الله لشيءٍ من كلام الناس، كما استمع إلى من يتغنى ويُحسِّن صوته بالقرآن".
وفي الحديث الصحيح عن البراء بن عازبٍ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((زينوا القرآن بأصواتكم))، وفي رواية: ((زينوا أصواتكم بالقرآن)).
وهذا هو الصحيح، وكأن الحديث الآخر مُفَسِّرٌ للحديث الأول.
وفي الحديث الحسن؛ عن فضالة بن عبيد الله -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لله أشدَّ أَذَناً -يعني: استماعاً- إلى صاحبِ القرآنِ، من صاحب القَيْنَةِ إلى قَيْنَتِه)).
وروى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً المسجد فسمع رجلاً يقرأ، فقال: ((من هذا؟)) فقالوا: عبد الله بن قيس، أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه-. فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((لقد أُوتي مزماراً من مزامير آل داود))".
وداود -عليه السلام- أعطاه الله صوتاً جميلاً وصوتاً حسناً، فكان يتغنى بقراءة الزبور ويَبكِي ويُبكِي.
يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كان -أي داود عليه السلام- إذا أراد أن يُبكي نفسه، لم تبقَ دآبةٌ في بَرٍّ ولا بحرٍ إلا أنصتت واستمعت وبكت".
وعند البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-: ((لو رأيتني وأنا استمع إلى قراءتك البارحة)).
وفي رواية أن أبا موسى -رضي الله عنه- قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا رسول الله! لو علمت أنك تستمع لقراءتي، لَحبَّرتُه لك تحبيراً". أي: لجمَّلت ولحسَّنت صوتي بالقرآن، وزينتُه ورتَّلتُه.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ليس منا من لم يتَغَنَّ بالقرآن))، يعني: ليس على هدينا، وليس على سنتنا، ولا على منهجنا؛ من لم يُحَسِّن صوته بقراءة القرآن بقدر استطاعته.
قال القرطبي: "أي: ليس منا من لم يُحَسِّن صوته بالقرآن".
قال عبيد الله بن أبي يزيد لابن أبي مُليكة: "يا أبا محمد! أرأيت إن لم يكن حسن الصوت"؟ قال: "يُحَسِّنه ما استطاع".
وعن عبد الله بن الزبير بن العوَّام -رضي الله عنه- قال: "ما أدركت رجلاً من المهاجرين إلا سمعته يترنم بالقرآن".
هذا كان هديهم، وهكذا كانت سيرتهم؛ الصحابة الأوائل -رضوان الله تعالى عليهم- الذين نزل القرآن في أيامهم وفي زمانهم، كانوا يترنمون ويُحَسِّنون أصواتهم بالقرآن.
وفي الحديث الحسن عن عبد الله بن مسعودٍ -رضي الله عنه- أنه صلى صلاة المغرب بـ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)، قال الراوي أبو عثمان النهدي: "ووالله لوددت أنه قرأ بسورة البقرة من حسن صوته وترتيله -رضي الله عنه وأرضاه-".
قال الحافظ ابن الجزري -رحمه الله تعالى-: "وأخبرني جماعةٌ من شيوخي وغيرهم أخباراً بلغت التواتر، عن شيخهم الإمام تقي الدين محمد بن أحمد الصائغ المصري -رحمه الله-، وكان أستاذاً في التجويد، أنه قرأ يوماً في صلاة الصبح: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ) وكَرَّرَ هذه الآية، فنزل طائر على رأس الشيخ، يسمع قراءته حتى أكمَلَها، فنظروا إليه فإذا هو هُدهدٌ".
ويذكر هنا الإمام ابن الجزري -رحمه الله- أن حسن الصوت وحده لا يكفي، بل ينبغي أن يقرأ القرآن بالتجويد، لأن التجويد هو زينة الأداء، وحلية القرآن.
والتجويد: هو قراءته كما أنزل على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
وأخيراً: ممَّا يعين على التدبر:
5- قراءة القرآن في الليل: قال الإمام النووي -رحمه الله-: "ينبغي أن يكون اعتناؤه بقراءة القرآن في الليل أكثر، وفي صلاة الليل أكثر"، أي: القراءة في الليل عموماً أفضل، سواءً كانت في الصلاة أو خارج الصلاة، لكنها في صلاة الليل أفضل وأولى، ثم قال: "وإنما رجَّحتُ صلاةَ الليل وقراءته لكونها أجمع للقلب، وأبعد عن الشاغلات والملهيات، والتصرف في الحاجات، وأصون من الرياء وغيره من المحبطات، مع ما جاء به الشرع من إيجاد الخيرات في الليل، فإن الإسراء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان ليلاً، وفي الصحيح عن جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن في الليل لساعة لا يوافقها عبدٌ مسلمٌ يَسأَلُ اللهَ -تعالى- خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة))، وهذا من خصائص الليل التي ميَّزه الله -تبارك وتعالى- بها".
وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه. فيشفعان)).
وفي الحديث الحسن: ((من قرأ عشر آياتٍ لم يكتب من الغافلين)).
وقال -تعالى-: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً)، قال ابن عباس -رضي الله عنهما- أي: "هو أجدر أن يفقه القرآن -يعني في الليل-".
وعن إبراهيم النخعي -رحمه الله- أنه كان يقول: "اقرؤوا القرآن في الليل، ولو حلب الشاة".
وذكر ابن حجر -رحمه الله- فوائدَ من حديث مدارسة جبريل للنبي -صلى الله عليه وسلم- بالقرآن في رمضان كل ليلة، ومنها قوله: "المقصود من التلاوة الحضور والفهم، لأن الليل مظنة ذلك، لما في النهار من الشواغل والعوارض الدنيوية والدينية" ا. هـ. ولذلك كان جبريل -عليه السلام- يدارس النبي -صلى الله عليه وسلم- في ليال رمضان.
وقال الحسن بن علي -رضي الله عنهما-: "إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم -تبارك وتعالى-، فكانوا يتدبرونها في الليل، ويتفقدونها في النهار".
وروى مسلم في صحيحه عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال: "صليت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة، فافتتح بالبقرةَ، فقلت: يركع عند المائة، فلم يركع -عليه الصلاة والسلام-، ومضى. فقلت: يركع ويصلي بسورة البقرة، فأتمها -عليه الصلاة والسلام-، وبدأ بسورة آل عمران، فقلت: يركع بسورة آل عمران فافتتح بسورة النساء، حتى أتمها -عليه الصلاة والسلام-: لا يمر بآيةٍ فيها تسبيح إلا سبَّحَ الله، -يعني يقرأ قراءة متأنية، ليست بالعجلة، ولا السريعة- لا يمر بآية فيها رحمة، إلا سأل الله، ولا آية فيها عذاب إلا تعوذ بالله، ولا آية فيها تسبيح إلا سبح الله -تبارك وتعالى-".
وليس معنى ذلك أن قيام الليل لا يكون إلا بالقراءة الطويلة، لا، بل قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من قام بعشر آياتٍ في ليلةٍ لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آيةٍ كتب من القانتين، ومن قام بألف آيةٍ كتب من المقنطرين)).
وكما جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "من صلى بالليل ركعتين فقد بات لله ساجداً وقائماً".
وليس العبرة بالكثرة، ولكن العبرة بحضور القلب والخشوع، بين يدي الله -تبارك وتعالى-.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.