• ×
السبت 20 أبريل 2024 | 06-04-2024
×

الوقف الهبطي ابتداع أم اتباع

0
0
679
 مدخل:
إن باب الوقف باب عظيم من أبواب المعارف القرآنية، حتى لأنه القطب الذي انشعبت عنه كثير من المباحث العقدية، واللغوية البيانية، والفقهية المذهبية، والصوفية العرفانية، بل ربما حتى البرهانية الفلسفية، والجدلية الكلامية، وهذا ليس غريباً، فمعرفة الفصل والوصل، أو الوقف والابتداء، أو القطع والائتناف حسب تعبير " النحاس"، من أدق ما اشتغل به العلماء على مر العصور، وألفوا فيه كتبا يكاد لا يحصيها العد، وانفصلت به الدراسات والرسائل منذ وقت مبكر، ولعل أقدمها "كتاب الوقوف" لشيبة بن نصاح المدني (ت 130 ه)، وكتاب " وقف التمام "المنسوب للإمام نافع (ت 169 ه) وهما من الكتب المفقودة، قال "النحاس "في كتابه "القطع والائتناف" (ج 1 ص 2): " ولست أعلم أحدا من القراء والأئمة الذين أخذت عنهم القراءة، له كتاب مفرد في التمام إلا نافعا ويعقوب، فإني وجدت لكل واحد منهما كتابا في التمام"، وقد أجمع العلماء على أهمية الوقف والابتداء، واستدلوا على ذلك بحديث عبدالله بن عمر: " لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد - صلى الله عليه وسلم -، فنتعلم حلالها وحرامها وما ينبغي أن يوقف عنده منها، كما تتعلمون أنتم اليوم القرآن، ولقد رأينا اليوم رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته، ما يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه، وينثره نثر الدقل" (رواه الحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن الكبرى وكذلك الطحاوي في أحكام القرآن). وقد جاء في "الكامل في القراءات" للهذلي (ص 132) قال: " قال أبو حاتم: من لم يَعْلم الوقف لم يعلم ما يقرأ. قال علي - رضي الله عنه -، الترتيل معرفة الوقوف وتحقيق الحروف"، وذكر كثير منهم ما يعرف بالوقف النبوي، أو وقوف جبريل - عليه السلام -، التي أخذها النبي - صلى الله عليه وسلم عنه، ذكر صاحب "منار الهدى "، في كتابه (ص 8): " قال السخاوي ينبغي للقارئ أن يتعلم وقف جبريل، فإنه كان يقف في سورة آل عمران عند قوله: (قل صدق الله) ثم يبتدئ: (فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً)، والنبي - صلى الله عليه وسلم يتبعه". ثم ذكر عدة مواقع للوقف في سور مختلفة، بلغت عشرة وقوف، ثم قال: " فكان - صلى الله عليه وسلم - يتعمد الوقف على تلك الوقوف، وغالبها ليس برأس آية، وما ذلك إلا لعلم لدني علمه من علمه وجهله من جهله، فاتباعه سنة في جميع أقواله وأفعاله". لكن المعروف أن رواية هذه الوقوف لا يدعمها سند من حديث صح عن النبي - عليه السلام -، وإنما هي من تواتر الروايات عن الأشياخ. وفي ذلك قال الشيخ محمود الحصري بعد أن أوردها في كتابه " معالم الاهتداء إلى معرفة الوقف والابتداء"، قال: " ولكن مع التنقيب البالغ والبحث الفاحص....لم أعثر على أثر صحيح أو ضعيف يدل على أن الوقف على جميع هذه المواضع أو بعضها، من السنة العملية أو القولية"، لكن لو تأملنا مليا حديث ابن عمر السابق، لفتح لنا منفذا نستظهر به سنداً كافياً في الاستدلال في المسألة؛ لأن "ابن عمر" تحدث فيه عن تعلم "ما ينبغي أن يوقف عنده منها"، ثم قال في آخر الحديث عن رجال من الناس " اليوم": " لا يدري ما آمره ولا زاجره ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه، وينثره نثر الدقل"، وهذه الجملة الأخيرة هي التي توجه معنى "يقف" في الحديث، فينصرف قطعاً إلى الوقف المعروف في القراءات، والدقل نوع رديء من التمر، قال ابن منظور في اللسان: " فتراه ليبسه ورداءته لا يجتمع ويكون منثورا"، وكذلك القراء الذين ينتقدهم ابن عمر لا يجمعون الكلام بعضه إلى بعض، في فواصل تربط بعضه ببعض، وتجمع آيات إلى آيات، وذلك لسرعة قراءتهم واتصالها فيخلطون المعاني ويفسدون التأويل، ويسند هذا الوجه من الفهم حديث حذيفة بن اليمان، الذي أورده البخاري في التاريخ الكبير قال: " عن جندب، بلغه عن حذيفة، أو سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ذكر ناسا يقرأون القرآن ينثرونه نثر الدقل، يتأولونه على غير تأويله" (هذا الحديث إسناده متصل ورجاله ثقات، رجاله رجال البخاري) وهكذا فابن عمر يذكر أنهم كانوا "يتعلمون" ما ينبغي أن يوقف عنده منها، فممن كانوا يتعلمون، إن لم يكن ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو كبار الصحابة؟ فابن عمر صحابي وحذيفة أيضاً صحابي، ومعنى ذلك أن ما ذكره صاحب منار الهدى من أوقاف منسوبة إلى النبي - عليه السلام -، تكون من بقايا ما تبقى بعد طول عهد، أو ربما لأن هذه الوقوف كانت مما اعتاد النبي - صلى الله عليه وسلم -، الوقف عليها، وتكراره ذلك حتى رسخت بالأذهان، وعلقت بالنفوس، وتناقلها الناس واضمحل عنهم ما سواها؛ لأن المعروف عنه - عليه السلام - أنه كان يقف على رؤوس الآي؛ لحديث أم سلمة - رضي الله عنها - وهي تصف قراءته للفاتحة.
الوقف الهبطي:
لقد قسم عدد من العلماء الوقف إلى أنواع أربعة على المشهور: تام (ويسمى أيضاً المختار)، وكاف (ويسمى أيضاً الصالح والمفهوم والجائز)، وحسن، وقبيح. قال السخاوي (ت 643 ه) في كتابه " جمال القراء وكمال الإقراء" (ص 563): « الوقوف أربعة أقسام: تام وهو الذي انفصل مما بعده لفظاً ومعنى، وكاف وهو الذي انفصل مما بعده في اللفظ وله به تعلق في المعنى بوجه، وحسن وهو الذي لا يحتاج إلى ما بعده؛ لأنه مفهوم دونه، ويحتاج ما بعده إليه لجريانه في اللفظ عليه، وقبيح وهو الذي لا يفهم منه كلام أو يفهم منه غير المراد"، أما المغاربة فقد تميزوا بوقف وضعه الإمام أبو عبد الله الهبطي (ت 930 ه)، وعرف بالوقف الهبطي. وانتشر في شمال افريقيا انتشاراً واسعاً، من ليبيا إلى بلدان افريقية عديدة دخلها الإسلام، وإليه ينسب الكتاب المعروف بتقييد الوقف، وهو كتاب صغير الحجم، اقتصر فيه على ذكر الكلمات التي ينبغي الوقوف عليها، فاصلاً بينها بنقطة، وقد بلغت الوقوف عنده حسب من أحصاها 9945 وقفاً، وقد أثار عمله هذا الكثير من الكلام والجدل، من بين مؤيد لذلك يرى فيه العالم الفذ، كما قال عنه صاحب " سلوة الأنفاس " (ج 2ص 79): "وقد كان - رضي الله عنه -، عالم فاس في وقته، وفقيها نحويا فرضيا، أستاذاً مقرئاً عارفاً بالقراءات مرجوعاً إليه فيها"، ومنتقد رماه بالجهل بأصول العربية وقواعدها كما فعل عبد الله بن الصديق في كتابه "منحة الرؤوف المعطي" حيث قال (ص 4): " لكن الشيخ الهبطي الذي عمل الوقف لم يقرأ هذه النصوص ولم يكن يعرف علم العربية ولا شيئاً مما اشترطوه لصحة الوقف"، لكن الأمر يتطلب وقفة متأنية توضع فيها الأمور في سياقها ويُنعَم النظر في سوابقها ولواحقها، وتستسبر أسبابها ومقاصدها، فالإمام الهبطي ليس فرداً معزولاً، وعمله بالضرورة ليس إلا نتاج سلسلة ممتدة من التفاعلات الثقافية والفكرية، عاشها الغرب الإسلامي في فترات متلاحقة، إن داخلياً بالمغرب والأندلس، أو في علاقته بالمشرق الإسلامي. فالتواصل لم ينقطع أبداً، لا بتنقل الكتب والرسائل، ولا بانتقال الرجال ورحلاتهم شرقاً وغرباً، وأنت إن استقصيت الأمر وتقصيته إلى أصوله، أوصلك إلى ما يسمى " بالحزب الراتب"، أو القراءة الجماعية للقرآن في المساجد، فمما لا شك فيه أن الإمام الهبطي، إنما وضع هذه الوقوف ليجمع القارئين عليها، وليوحد تلاواتهم فلا تختلط عليهم فيفتتنوا ويضيع الهدف من القراءة أصلاً، قال عبد العزيز بن عبدالله في كتابه " معجم المحدثين والمفسرين والقراء بالمغرب" (ص 5): " وقد أمر يوسف بن عبد المؤمن الموحدي، رغم كراهة مالك لقراءة القرآن جماعة، بتأسيس قراءة الحزب في المساجد، ومنعت قراءته بغير تجويد، وتيسيرا لذلك، قام العلامة محمد بن أبي جمعة الهبطي، بوضع طريقة لوقف القرآن لم تكن معروفة في المشرق"، وما نستبعد أن الناس قد خلطوا، وخلطوا كثيراً وحدث الشقاق في المساجد، وطال ذلك واستفحل، خاصة وأنه بين ظهور الحزب الراتب بالمغرب، وبين الإمام الهبطي ما يقرب من أربعة قرون، ولو شئت لقلت إن ما فعله الهبطي، بجمع الناس على وقوف محددة، يكاد يشبه ما فعله عثمان بن عفان، حين جاءه حذيفة بن اليمان، محذرا من اختلاف الناس في القرآن، فجمعهم على مصحف واحد نسخ منه نسخا، وفرقها في الأمصار.
الحزب الراتب أو حزب الإسكندرية:
وبعد، فلنمسك الخيط من أوله، لقد ذكرت بعض المصادر أن أول من أدخل القراءة الجماعية للقرآن إلى المغرب، هو المهدي بن تومرت مؤسس الدولة الموحدية (ت 524 ه)، بعد رحلة إلى المشرق دامت أربعة عشر عاماً عاد بعدها كما قال ابن خلدون: " بحراً متفجراً من العلم وشهاباً وارياً من الدين". فقد ذكر الإمام الشاطبي في الاعتصام (ج2 ص 70) متحدثاً عمن نعته بالمتسمي بالمهدي: "ونقل أيضاً إلى المغرب الحزب المحدث بالإسكندرية، وهو المعتاد في جوامع الأندلس وغيرها، فصار ذلك سنة في المساجد إلى الآن" وذكر ابن صاحب الصلاة في كتابه "المن بالإمامة"، الذي حققه الدكتور عبد الهادي التازي (ص 54)، قال متحدثاً عن الموحدين: "واعتادوا منذ الأيام الأولى أن يوزعوا القرآن أحزاباً؛ ليقرأوا منه يومياً حصة معينة"، فالظاهر من النص الأول، أن هذا النوع من القراءة ظهر بالإسكندرية، وأنه وافد على المغرب، فإذا زدنا الأمر تقصياً، تبين لنا أن "حزب الإسكندرية" هذا قديم زمنه، فقد ذكِر للإمام مالك - رضي الله عنه فأنكره، فقد جاء في "الاعتصام " للشاطبي (ج 2ص 327): " ويشبه هذا ما في سماع ابن القاسم عن مالك، في القوم يجتمعون ويقرأون في السورة الواحدة، مثل ما يفعل أهل الإسكندرية، فكره ذلك وأنكر أن يكون من عمل الناس"، وهكذا يتضح أن هذه القراءة كانت معروفة في عصر الإمام مالك، وذاع أمرها حتى سئل عنها فكرهها، والإمام عاش في القرن الثاني للهجرة (ت 179 ه)، فهل كانت هذه القراءة غفلاً من الوقف؟ فكان المجتمعون للقراءة يقرأون في أخلاط من الوقوف، كل يقف حيث يشاء، بأثر من هواه أو طاقته، وطول النفس، من غير نظام ولا علم سابق بمواقع وقوف محددة تواضعوا عليها؟ ذاك أمر مستبعد، خاصة وأنهم يقرأون جميعاً في سورة واحدة، اللهم إلا إذا كانوا يقرأون دون وقف، قراءة متواصلة مستمرة أو لا يقفون إلا عند رؤوس الآي، ومع ذلك يظل الأمر محوجاً للنظر، لا يشفي من غلة، خاصة أن بعض الآيات، ذات طول ينقطع معه النفس، مثل آية الديْن التي تستغرق ثمن الحزب، فلا يبقى لنا إلا أن نتصور أنهم كانوا يقرأون دون مراعاة وقف محدد، وتتكامل قراءاتهم حسب طاقة كل منهم، وطول نفسه، فإذا انقطع الأضعف ظل القادر مستمراً حتى يسايره المنقطع، وهكذا، في اتصال لا ينقطع، وهم كثر والقدرات متفاوتة، فيستطيعون المحافظة على الاستمرار الجماعي في القراءة، ومما يعزز هذا التصور أن " الشيخ بن حنفية العابدين" من الجزائر، ذكر في كتابه " منهجية ابن أبي جمعة الهبطي " نوعاً من القراءة الجماعية لعله أن يكون من بقايا هذا الحزب المحدث بالإسكندرية. يقول في (ص 76): "ويشار هنا إلى نوع من القراءة شائع عندنا في الجهة الغربية من القطر، يعرف بالشرقي، نسبة إلى المناطق الشرقية.... تلك المناطق التي لم تتأثر بوقف الهبطي، - رحمه الله -، ابتداء من القرن العاشر. والمراد بالشرقي، القراءة بلا وقف"، ثم قال بعد ذلك: "والشرقي هذا ضربان: ضرب ثقيل بطيء، يزيد فيه القارئون في حروف المد ويمططون الكلمة، ويقطعونها، ويقف القارئون على حروف المد في المدود المتصلة والمنفصلة، على أن يكمل أحدهم ممن يقوى نفسه، ما بعد حرف المد من همز أو ساكن، نحو جاء والطامّة".
أفلا يسعنا هنا أن نسمح لأنفسنا، أن نقف في شيء من الثبات، ونزعم أن اعتماد وقف موحد يجتمع عليه القارئون، لم يكن مما ابتدع في القرن العاشر مع الإمام الهبطي، وإنما كانت له بدايات أولى سابقة بقرون، وأنه نشأ وحبا ودرج وتعثر تعثرات جمة، حتى اكتملت صورته واستوت عند هذا الإمام، الذي لم يكن منه إلا ما سماه بنفسه تقييد وقف القرآن الكريم، فليس غريباً أن تظهر تقييدات أخرى سبقته. فقد ذكر "عبد الهادي حميتو" في كتابه " قراءة الإمام نافع عند المغاربة" (ج 4 الأعداد 24/25 ص1263) متحدثاً عن وجود تقييد آخر للوقف، قيد عن أبي عبدالله الصغير فقال: " ولما كان أبو عبد الله الصغير النيجي قد توفي سنة887 ه فمعنى ذلك أن فكرة تقييد وقف شامل للقرآن الكريم قديمة في الزمن». ومهما يكن من سوابق هذا التقييد فإن الوقف الهبطي قد انتشر انتشاراً واسعاً في المغرب العربي وإفريقيا السوداء ممن وصلهم الإسلام من أهلها، وتقبله الناس، بل بالغوا في ذلك، وغالى بعضهم وتشددوا حتى رسخ لديهم واعتقدوا عقيدة، أن هذا الوقف من أصول التنزيل، وأن الشيخ الهبطي رآه في اللوح المحفوظ، حسب الحكاية الغريبة التي أوردها الكتاني في سلوة الأنفاس". (انظر ص 79 /ج 2).
دعوى الاتباع:
لكن السؤال الذي يلح على كل ناظر في هذا الأمر هو، هل ما فعله الإمام الهبطي كان اجتهاداً ذاتياً، بحسب ما هداه إليه نظره ومعرفته، أم كان قائماً على اتباع للأصول الأولى في الوقف، والتي هيأت لها اعتبارات لغوية وتفسيرية وعقدية، ومن ثم لم يكن الشيخ الهبطي، إلا منتقياً مختاراً منها ما ينساق مع قناعاته اللغوية والتفسيرية والعقدية؟ إن الإجابة على هذا السؤال تتطلب منا النظر في الوقوف الهبطية، والبحث عن أصول لها فيما سبقه من كتب الوقف والتفسير وإعراب القرآن، وبما أن الإحاطة بكل الوقوف يستلزم دراسة تتجاوز حجم المقال، فإننا نكتفي بوضع دعوى استدلالية، يكون إثباتها حجة يستأنس بها فيما يحصل عنها من نتائج، ويبنى عليه منها من أحكام، وتكون الدعوى كالآتي: "إذا ثبت بالدليل أن وقفاً أو بعض أوقاف هبطية، من الوقوف المشكلة، له أصل سابق يُعتد به ويُرجع إليه، فإن ما قيده الشيخ الهبطي من الوقوف، لم يكن ابتداعاً فردياً، وإنما اتباعاً، وبناءً على وجه سابق، ومن ثم يسقط عن الرجل، ما ليم به، وهوجم في فكره وعلمه"، ولنأخد بالتحليل أول آية بوقف مشكل، من وقوف الهبطي وهي الآية (17) من سورة البقرة، قوله - تعالى -: (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون)، لقد وقف الهبطي على كلمة "حوله" وجعل جملة " ذهب الله بنورهم" كلاماً مستأنفاً مفصولاً عما يبدو أنه جوابه؛ لِمَا في " لمَّا " من معنى الشرط، هذا المعنى الذي يسبق إلى الخاطر لأول تدبر، وبه قال كثير من العلماء، فقد جاء في كتاب " منار الهدى في بيان الوقف والابتداء" للأشموني قال: "(نارا)، وكذا، (ما حوله)، ليس بوقف؛ لأنهما من جملة ما ضربه الله مثلاً للمنافقين بالمستوقد ناراً وبأصحاب الصَّيّب، والفائدة لا تحصل إلا بجملة المثل، وذهب إلى هذا المعنى جمهور من العلماء كما جاء في تفسير " ابن عطية" حيث قال في (ج1 ص 100): " قال جمهور العلماء جواب " لمَّا "، "ذهب"". وهذا الوجه يقتضي الوصل لا الوقف، لما في" لمَّا" من معنى الشرط المتطلب للجواب، ولا يجوز الفصل بينهما، لكن هل الإمام الهبطي خالف كل ذلك واجتهد في هذا الوقف ابتداءً وانفراداً، بلا روية ولا تدبر، فكان كما قال عنه الشيخ عبد الله بن الصديق في " منحة الرؤوف المعطي" (ص 4) " ولم يكن يعرف علم العربية، ولا شيئا مما اشترطوه لصحة الوقف، بل أقدم على عملية الوقف بحسب ما ظهر له، من غير مراعاة للقواعد، فكان كثير من وقوفه من قبيل الممنوع"، فهل كان الشيخ الهبطي كذلك، وهل تصدى للوقوف بهذه الصورة التي أخرجها الشيخ ابن الصديق؟ لنتصفح المصادر برجوع خلفا إلى ما يمكن أن نجده من أصل، يكون الشيخ الهبطي قد استند إليه في وقفه هذا. جاء في تفسير ابن عاشور " التحرير والتنوير" (ج 1 ص 309): "وجوز صاحب الكشاف أن يكون قوله (ذهب الله بنورهم) استئنافا، ويكون التمثيل قد انتهى عند قوله - تعالى-: (فلما أضاءت ما حوله)، ويكون جواب لمّا محذوفا دلت عليه الجملة المستأنفة". فإذا استقصينا الأمر عند الزمخشري نفسه، وجدناه يقول في "الكشاف" (ج 1 ص 192): " فإن قلت أين جواب لمّا؟ قلت فيه وجهان، أحدهما أن جوابه (ذهب الله بنورهم)، والثاني محذوف، كما حذف في قوله (فلما ذهبوا به)، وإنما جاز حذفه؛ لاستطالة الكلام، مع أمن الإلباس للدال عليه، وكان الحذف أولى من الإثبات لما فيه من الوجازة... كأنه قيل: فلما أضاءت ما حوله خمدت فبقوا خابطين في ظلام".
فأنت ترى أن الزمخشري لا يكتفي بذكر وجه الحذف، بل يعلله تعليلاً بلاغياً يدخله في باب الإيجاز، بل أكثر من ذلك نراه يجعل الحذف أولى من الإثبات، وقد يعترض معترض ويقول: إن الزمخشري اتهمه عدد من العلماء بانتصاره لمذهبه في الاعتزال، وتعسفه في تأويل آيات من القرآن، بما يساير هوى المذهب وآراء الاعتزال، لكن لا أحد ينكر أن الكتاب فيه مخارج لغوية سديدة، وبيانات إعجازية فريدة، لم يسبق إليها، باعتراف كثير من العلماء، ثم إن هذا الوجه من الفهم للآية الكريمة لم يقتصر على الزمخشري وحده، فقد ذكره ابن عطية في تفسيره وكذلك الأصفهاني في إعراب القرآن حيث قال (ص 36) متحدثاً عن لمّا في الآية: "وهذه محتاجة إلى جواب... فإن قيل فأين الجواب؟ قيل محذوف، تقديره فلما أضاءت ما حوله طفئت"، بل إن الطبري في تفسيره "جامع البيان" وهو الأقدم، ومن جاء بعده كان يمتاح منه، ينحو نفس المنحى. ونكاد نجد في كلامه ما يتبدى أصلاً لما ذكره الزمخشري. قال في (ج 1 ص 344): " فإن قال لنا قائل: إنك ذكرت أن معنى قوله - تعالى -(مثلهم كمثل الذي استوقد نارا.. )، خمدت وانطفأت، وليس ذلك بموجود في القرآن، فما دلالتك على أن ذلك معناه؟ قيل قد قلنا إن من شأن العرب الإيجاز والاختصار، إذا كان فيما نطقت به الدلالة الكافية على ما حذفت وتركت"، ثم قال بعد استشهادات من الشعر..: "فكذلك قوله: (كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله) لما كان فيه، وفيما بعده من قوله (ذهب الله بنورهم)، دلالة على المتروك كافية من ذكره، اختصر الكلام وطلب الإيجاز"، وأنت إذا تأملت الكلامين، بدا لك جلياً أن الزمخشري، يكاد يكرر نفس كلام الطبري، لا في تقدير الحذف ولا في تعليله، فإذا تقصينا الأمر غاية التقصي، عثرنا على جملة في تفسير ابن الخازن الموسوم بلباب التأويل (ج 1 ص 29) ينسبها إلى ابن عباس - رضي الله عنه -، يقول فيها: " فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره"، مما يدل على أن الأمر في هذا الوقف، وما يرادفه من معاني، ويتفرع عنه من تأويل، هو أبعد أثرا في بطون المعارف القرآنية، وأصوله تضرب بعيداً في البدايات الأولى، وبذلك يتكشف لنا بجلاء، أن الإمام الهبطي لم يكن مبتدعاً شيئاً من نفسه على غير هَدْي، ولا أقدم على عملية الوقف بحسب ما ظهر له، كما وصفه الشيخ ابن الصديق، بل الرجل يبدو ذا اطلاع ومعرفة، وإراة تختار، وهمة تروّي عن اعتقاد وتدبر ولعل الطاعنين عليه نفذوا من ثغرة القراءة الجماعية، إذ ارتبط وقف الهبطي بها، لكن هل بدع القارئين الجهال بأدب القراءة، وما أحدثوه من صور صوتية وحركية، وكثرة التفات وتغيير صوت، ارتفاعا وتلوينا، ومد غير الممدود، والوقف وسط المد المنفصل والمتصل، يتخذ مطية للنيل من عمل الرجل دون تمحيص ولا تبصر. ؟ ذلك مالا يقول به منصف مستبصر.
وهكذا وبعد هذه الأدلة والتحليل، تكون الدعوى التي وضعناها من قبل قد أنتجت لنا حكما نطمئن إليه، وهو أن الإمام الهبطي لم يكن مبتدعاً في وقوفه، وإنما جرى فيها على الاتباع والاقتداء، وأن اختياراته كانت عن علم وتبصر، وأنه كان كما وصفه صاحب "سلوة الأنفاس "، ولولا خشية الإطالة لسقنا أدلة أخرى من آيات الوقوف التي أثارت الحاملين عليه، حتى تلك التي تبدو غريبة ولا يستسيغها المتدبر لأول نظرة كوقوفه على " عم " في بداية سورة النبأ. لكن ما ينبغي ذكره هو أن المطلع على الكتب المؤلفة في الوقف والابتداء، يكتشف هذا الغنى الهائل الذي يكاد لا تحده غاية، ويحيط به الحصر. ويقف فيه على دقائق تجعله يفزع إلى مدد من التبصر والتروي، قبل أن يستنكر وقفا من الوقوف أو يرمي من اهتدى إليه أولهج به، بالجهل ونقصان المعرفة. وبعد، فالدراسات تبين أن الإمام الهبطي توافق وقوفه وقف الإمام نافع، في كثير. وقد اطلعت على مقال في الانترنيت للباحث عمر البصري عنوانه: "وقوف الإمامين نافع المدني ويعقوب الحضرمي" يقول فيه: "وقد قمت باستخراج وقوف هذين الإمامين الجليلين من كتاب " القطع والائتناف" للنحاس، فبلغت وقوف نافع زهاء444 وقفاًً، ووقوف يعقوب 172 وقفاً" ثم قال: "كما أنهما - رحمهما الله - يقفان أحياناً على المبدل منه دون البدل، وعلى المعطوف عليه دون المعطوف، وعلى الشرط دون جوابه" ومن تلك الوقوف ما ذكره الهذلي في "الوقف والابتداء قال (ص 57): « والخامس وقف البيان كما روي عن نافع ونصير، (بعاد إرم) وقفا عليه لأنهما لم يجعلا (ذات العماد) نعتا وجعلا إرم قبيلة أو رجلا. ومن جعل (ذات العماد) نعتا لم يقف ». وجاء في "منار الهدى" قوله عن هذا الوقف: « (بعاد إرم) وقف عند نافع، قال الكسائي جيد ». فأنت ترى كيف أن نافعا رأس القراء في المدينة، وقف في هذه الآية وقفا يمكن أن يؤخذ حجة على من أنكروا على الإمام الهبطي بعضا من وقوفه، والتي أثبتنا سابقا أنها لم تكن إلا اتباعا لما قال به علماء القراءات وفقهاء النحو. ثم إننا لو استحضرنا قوله - تعالى-: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) لكفانا ذلك. فلن يتأتى لأي كان، مهما علت درجته أو سفلت، أن يحدث في القرآن الكريم مقدار ذرة من بدعة مستحدثة، ثم يظهرها الله ويكتب لها هذا الانتشار، خاصة وأن أمر الوقف له خطره، لأنه يوجه المعاني، ومن ثم يؤثر في الأحكام. ولا يقتصر نفاذه في الآيات المتشابهات، وإنما يطال أثره الآيات المحكمات.