• ×
السبت 2 نوفمبر 2024 | 28-10-2024
×

الحذف في القرآن الكريم

0
0
533
 مقدمة:
الحمد لله الذي خلَق الإنسان وعلَّمه البيان، وألْهَمه من علوم اللسان ما يُعينه على فَهْم السُّنة والفُرقان، والصلاة والسلام على نبي الإسلام وهادي الأنام، وعلى آله وأصحابه أُولي النُّهى والأحلام.
وبعدُ:
فالحذف ظاهرة لُغوية عامَّة ومشتركة بين جميع اللغات الإنسانيَّة؛ حيث يميل الناطقون بها إلى حذْف بعض العناصر بُغية الاختصار، أو حذف ما قد يُمكن للسامع فَهْمه اعتمادًا على القرائن المصاحبة: حاليَّة كانت أم عقليَّة، كما أنَّ الحذف قد يَعتري بعض عناصر الكلمة الواحدة، فيُسقط منها عنصرًا أو أكثر[1]، وهذا ما يجعل هذا الموضوع يكتسي هذه الأهميَّة الكبرى من لَدن الدارسين النحويين والبلاغيين وغيرهم، ولكن مع ذلك فلم تُخَصَّص له بحوث مستقلة، وإنما ذُكِر في كتبهم بشكلٍ عام في فصول لا تَفي بالغرَض المطلوب؛ مما أحوجَنا إلى دراسة مستقلة عن الموضوع، وبالرغم من وجود بعض هذه الدراسات، فإنها ركَّزت على الجانب النحوي، وأغْفَلت الجوانب الأخرى، أو لَم تَنَلْ حقَّها الذي تستحقه، ومن أجْل ذلك فقد ارْتَأَيْت أن أُشارك في هذا الموضوع بهذا البحث الذي سأحاول فيه أنْ أمزجَ بين التنظير والتطبيق؛ حيث سأقوم بحول الله ومَدَده بعرْض التعاريف والأقسام أولاً، ثم أقوم بالتدليل عليها بأمثلة تُفهِمُ المعنى وتُوصِل إلى المطلوب، مع التركيز على الدراسة - نحوية وبلاغيَّة - في ارتباطها بالقرآن، بالإضافة إلى التعريف ببعض الأسرار والأغراض من هذه الظاهرة، وكذا محاولة إدراك بعض مظاهر الحذف، وبعض مواضعه في الكتاب العزيز، مركِّزًا على حذف الفاعل الذي ينوب عنه فاعله؛ حتى لا تكون الدراسة مُهلهلة مترامِيَة الأطراف، لا يُستطَاعُ الإحاطة بها.
وأما عن خُطة البحث، فقد ارْتَأَيْت أن أجعلَه في فصلين كبيرين، وهما:
الفصل الأول، والذي عنونته بـ"الحذف عند النحويين واللغويين"، وذلك رغبةً في تأصيل هذه الظاهرة في الدرس اللغوي العربي، ومعرفة صُوَره وأشكاله، مُضمنًا إيَّاه مجموعة من المباحث والمطالب التي تتغيَّى الوصول إلى دراسة معجميَّة للحذف وبعض المصطلحات القريبة منه، وكذا تسليط الضوء على تصوُّر كلٍّ من النحويين والبلاغيين للحذف؛ من حيث مواضعه وأنواعه، وبعض أغراضه.
وأما الفصل الثاني، فقد عنونته بما يلي: الحذف في القرآن الكريم وأغراضه.
وقد حاوَلت فيه أن أستخلصَ تعريفًا للحذف عند دارسي علوم القرآن، والتنبيه على أهميَّته في تزيين المعنى وتنميقه؛ حتى يكون أبلغَ في التلقِّي، ثم عرَّجْت بعد ذلك على الحديث عن شروطه وأدلته، وكذا الأغراض المتغيَّاه من ورائه، وقد استعنْتُ في هذه النقطة بمجموعة من الأمثلة؛ لتوضيح هذه الأغراض، مع الاستعانة ببعض كُتب التفسير وإعراب القرآن؛ للوصول إلى المعنى وبيان المقصود، ثم ختمْتُ بخلاصة تركيبيَّة استجمَعْتُ فيها بعض الخُلاصات والاستنتاجات التي خرجتُ بها، آملاً من الحق - سبحانه - أن يجعل بحثي هذا شيئًا أُضيفه إلى المكتبة الإسلامية التي تُعنى بكتاب الله - تعالى -، والكشف عن أسرار نَظْمه وأسلوبه.
المبحث الأول: تعريف الحذف:
تعريف الحذف من الناحية اللغوية والاصطلاحيَّة:
جاء في لسان العرب مادة "حذَف" ما يلي:
حذَفَ الشيء يحذفُه حَذْفًا: قطَعه من طرَفه، والحُذافة: ما حُذِف من شيء فَطُرِح، وجاء فيه أيضًا ما يُفيد قَطْفَ الشيء من الطرَف، كما يُحْذَف طَرَف ذَنَب الشَّاة، والحذف: الرَّمْي عن جانبٍ، والضَّرْب عن جانبٍ[2].
والحُذَافَةُ: ما حُذِفَ من شيء فطُرِح، وأُذُنٌ حَذْفاء كأنها حُذِفَتْ؛ أي: قُطِعت، والحِذْفَةُ: القطعة من الثوب، وقد احْتَذَفه، وحذَفَ رأْسه حَذْفًا: ضرَبه، فقَطَع منه قطعة.
ويتَّضح من خلال هذه المُعطيات القاموسيَّة والمعجميَّة أنَّ المعنى الذي تُشير إليه كلمة "حذف" غالبًا، لا يُخرج عن ثلاثة معان أساسيَّة، وهي:
القَطْعُ؛ إذ نقول كما جاء في لسان العرب: حذَف الشيء يَحذفه؛ أي: قطَعه من طرَفه.
القَطْفُ، وهو أيضًا بمعنى القطع؛ كما ذَكَر صاحب اللسان: "قطَف الشيء يَقطفه؛ أي: قطَعه.
الطَّرْح؛ إذ إنه لا يُحذَف شيء إلاَّ طُرِح، والطَّرْح كذلك الإسقاط.
إذًا فالحذف في اللغة يُحيل على القطْع والقطف والإسقاط، كما أنَّ المحذوف من الشيء هو المقطوع منه والساقط.
واصطلاحًا: إسقاط وطرْح جزءٍ من الكلام أو الاستغناء عنه؛ لدليل دَلَّ عليه، أو للعِلم به وكونه معروفًا[3].
وهذا التعريف الاصطلاحي لا يختلف عن التعريف اللغوي المشار إليه آنفًا، بل يُضارعه ويَجري في مجراه، والحذف من المباحث المهمَّة التي أشار إليها كلٌّ من النحويين والبلاغيين، واهتمُّوا بها اهتمامًا كبيرًا، وخصَّصوا له أبوابًا كاملة في مؤلَّفاتهم وكُتبهم، وإن اختَلفوا في طريقة التفسير والتحليل، وكذا في الجانب الذي اتَّخذوه مجالاً للدرس والتفسير، فالنحاة مثلاً انطَلقوا من المنطق الإعرابي، متوسِّلين ببعض التأويلات النحوية؛ مثل: "التقدير الإعرابي، والإضمار، والاستتار"؛ لدراسته والبحث فيه، وكان غرَضُهم في ذلك دراسة التركيب والعلاقات النحويَّة، وإيجاد أوْجه التفسير لحركة معيَّنة أو إعراب مُتضَمنٍ في التركيب النحوي لجملةٍ ما، وأمَّا البلاغيون فقد درَسوا الحذف من الناحية الدَّلالية، وحاوَلُوا إثبات مكامن الجمال وصور التفنُّن والإبداع في الكلام، وأوْضَحوا كونه من أسرار البلاغة - كما سيأتي أثناء الحديث عن كلام الجُرجاني وغيره من دارسي البلاغة العربية قديمًا وحديثًا، والمقصود من هذا الكلام أنَّ البيان والتحليل، ودراسة الأسباب الثاوية والكامنة وراء الحذف، وإيجاد تخريجات نحوية لذلك، هو موطن البحث ومجال الدراسة عند النحوي، وأمَّا البلاغي فدَورُه في هذا الباب بيان الأغراض البلاغية للحذف، وإيجاد المواضع التي يكون فيها هذا الحذف أكثر تأثيرًا، وأبلغَ إيضاحًا وإمتاعًا للمتلقي؛ حتى يَتَوصَّل إلى مطلوبه، ويهجم على مقصوده بأرْوع تمثيلٍ، وأبدع بناءٍ وتصوير، ويحقِّق بذلك الغرَض البلاغي الذي يسعى إليه الأُدباء والشعراء، وهو الإمتاع الذي تتوخَّاه البلاغة العربية؛ إذ الإقناع قد لا يكون مقصودًا في هذا الجانب؛ لأن ذلك إنما تُعنَى به الخطابة والمناظرة - وإن تضمَّنا شيئًا من الإمتاع.
المبحث الثاني: مصطلح الحذف عند النحويين:
المطلب الأول: الحذف وما يقع فيه عند النحاة:
تعريف الحذف والمواطن التي يقع فيها:
لقد اهتمَّ النحاة قديمًا بظاهرة "الحذف"، وأحْصَوا مواضعه، وأعطوا الأوْجه المُمكنة فيه، وفسَّروا بعض العِلل الكامنة وراءَه، وتحدَّثوا عنه في مباحث كثيرة - خصوصًا في باب نائب الفاعل - وإنْ عبَّروا عن هذا الحذف بمصطلحات كثيرة، مثل: الاستتار والإضمار، والدليل على ذلك ما ذكَره صاحب "البحر المحيط" أثناء تعليقه على قول ابن عطيَّة أثناء إعرابه لقوله - تعالى -: (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ)[البقرة: 165]؛ حيث قال: "فقوله: مضاف إلى الفاعل المضمر، لا يعني أنَّ المصدر أُضْمِر فيه الفاعل، وإنما سمَّاه مضمرًا لِمَا قدَّره من "كحبهم..."، أو يَعني بالمضمر المحذوف، وهو موجود في اصطلاح النحويين؛ أعني: أن يسمَّى الحذف إضمارًا"، وذلك لأنَّ اللفظتَيْن كليهما - أقصد الحذف والإضمار - تجتمعان في مادتهما اللغويَّة في معنى الإسقاط، ومن أجْل ذلك فسنتطرَّق لبعض الفروق الموجودة بين هذه المصطلحات الثلاثة: "الحذف، والإضمار، والاستتار".
أمَّا الحذف الذي سبَق تعريفه بأنه: "إسقاط وطرْح جزءٍ من الكلام، أو الاستغناء عنه لدليل دلَّ عليه، أو للعِلم به وكونه معروفًا"، وهذا المعنى ذاته يَستعمله النحاة في أبواب كثيرة من المباحث النحويَّة المهمَّة، ويُعلِّلون ذلك بمجموعة من العِلل التي يَختارونها ويقدِّرونها حسب ما تَقتضيه الضرورة والعِلة النحويَّة، وها هنا ذِكْر لبعض هذه المواضع التي ذكَرها هؤلاء النحاة مع التعليلات التي علَّلوا به هذا الحذف في المواطن التي عدَّدوها:
الحذف في باب المبتدأ والخبر[4]، ودليل ذلك ما ذكَره ابن يعيش في "المفصل" عند شرْحه لقول المؤلِّف: "ويجوز حذف أحدهما" - يقصد المبتدأ والخبر - واستخلص منه جواز حذف أحدهما لوجود قرينة حاليَّة أو لفظيَّة، تُغني عن النُّطق بأحدهما، فقال - رحمه الله -: "اعلمْ أنَّ المبتدأ والخبر جملة مفيدة تَحصل الفائدة بمجموعهما، فالمبتدأ معتمد الفائدة، والخبر محلُّ الفائدة، فلا بد منهما، إلاَّ أنه قد توجَد قرينة لفظيَّة أو حاليَّة تغني عن النُّطق بأحدهما، فيحذف لدَلالتها عليه"[5]، ويقصد بذلك أنه يجوز حذْف المبتدأ والخبر كليهما، وإن كانت الفائدة متوقِّفة عليهما، وكانا عمدة في الكلام إذا فُهِم المعنى بدون اللفظ، فيُحذف أحدهما، ويكون مرادًا لفظًا وحكمًا؛ أي: إنَّ إعرابه يبقى على اعتبار حُكمه الأصلي كما لو كان هذا المحذوف؛ سواء أكان مبتدأ، أم خبرًا موجودًا، وقال المكودي معلِّقًا على قول ابن مالك في باب الابتداء:
وَحَذْفُ مَا يُعْلَمُ جَائِزٌ كَمَا *** تَقَولُ: زَيْدٌ بَعْدَ مَنْ عِندَكُمَا
"يعني أنه يجوز حذْف كلِّ واحدٍ من المبتدأ والخبر إذا عُلِم"[6]، وذلك بعد أن ذكَر بعض الأحكام المتعلقة بالمبتدأ والخبر، وقد استدلَّ ابن مالك على حذْف الخبر بقوله: "كما تقول: زيد بعد مَن عندكما"، فزَيْدٌ مبتدأ والخبر محذوف للعِلم به، وتقديره: زيدٌ عندنا، ثم مثَّل لحذْف المبتدأ للعلم به بقوله:
وَفِي جَوَابِ كَيْفَ زَيْدٌ قُلْ: دَنِفْ[7] *** فَزَيْدٌ اسْتُغْنِيَ عَنْهُ إِذْ عُرِفْ
فدَنِفٌ خبرٌ، والمبتدأ محذوف تقديره: "زيد دَنِفٌ"، وفُهِمَ من قوله: "وَحَذْف ما يُعلم جائز" أنه يجوز حذف المبتدأ والخبر معًا إذا عُلِما، ومنه قوله - تعالى -: (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ)[الطلاق: 4]؛ أي: فعِدَّتهن ثلاثة أشهر، فَحُذِفَ المبتدأ والخبر؛ لدلالة ما تقدَّم عليه؛ أي: قوله - تعالى -: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ)[الطلاق: 4].
ومن أمثلته في حذف المبتدأ أيضًا: قول المُستهل - وهو الذي يطلب الهلالَ وينتظره -: "الهلالُ والله"؛ أي: هذا الهلال والله، ومثله إذا شَمَمت ريحًا طيبة، قلت: "المِسكُ والله"؛ أي: هو المِسكُ والله، أو هو المسكُ، فتُعرب كلمة "الهلال والمِسك" على النحو التالي:
"خبر مرفوع بالمبتدأ المحذوف، وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره، وهذا معنى بقاء حُكمه الذي هو الرفع".
الحذف في باب المفعول المطلق، حيث ذكَر النحاة أنه يجوز حذف العامل في المصدر في نحو قولك لِمَن قال: ما ضرَبت زيدًا "بل ضربتين، وبل ضربًا شديدًا"، بل قد يكون واجبًا في حالات ذكَرها النحاة، ومنها ما يتعلَّق بعامل المصدر الآتي بدلاً من فعْله، كقولك: "ضربًا زيدًا"، ومثله ما جاء في قول الشاعر:
عَلَى حَينِ أَلْهَى النَّاسَ جُلُّ أُمُورِهِمْ *** فَنَدْلاً زُرَيقُ الْمَالَ نَدْلَ الثَّعَالِبِ
فندلاً: مصدر ندَل، وهو بدل من اللفظ بالفعل، والتقدير: "أندل ندلاً"، ويُعربها بعض النحاة على الشكل الآتي: نَدْلاً مفعول به منصوب لفعل محذوف تقديره أندل.
ويُحذف كذلك عامل المفعول المطلق إذا قُصِد به التفصيل؛ كما جاء في قوله - تعالى -: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً)[محمد: 4]؛ إذ إنَّ قوله - تعالى -: (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) تفصيل لعاقبة ما قبله، وهو قوله - عز وجل -: (فَشُدُّوا الْوَثَاقَ)، فتقدير الكلام: "فإمَّا أن تمنُّوا منًّا، أو تُفدوا فِداءً"، وهناك مواضع أخرى ليس ها هنا مجال التفصيل فيها.
الحذف في باب المنادى: والمنادى من منصوبات الأسماء التي أشار النحاة إلى وجود الحذف فيها؛ لأنَّ حُكم المنادى هو النصب - حُكمًا أو تقديرًا - وعامل النصب فيه؛ إمَّا فعل محذوف وجوبًا تقديره: "أدعو"، ناب حرف النداء منابَه، وإمَّا حرف النداء نفسه؛ لتضمُّنه معنى "أدعو"، وعلى الأول، فهو مفعول به للفعل المحذوف، وعلى الثاني فهو منصوب بـ"يا" نفسها[8].
فأصل "يا زيدُ": "أدعو زيدًا"، فالمنادى في محلِّ نصب على المفعوليَّة؛ لأنه مفعول به في المعنى، وناصبُه فعل محذوف تقديره: "أدعو"، كما يجوز حذف حرف النداء جوازًا في نحو: "يا زيدُ أقبلْ"، فتقول: "زيدُ أقبل"، وفي "يا عبدَ الله ارْكَب": "عبدَ الله اركب".
الحذف في باب التحذير والإغراء، وهذا باب الحذف مذكور فيه أيضًا، والدليل على ذلك أنَّ النحاة عند تعرُّضهم لهذا المبحث، يعرِّفون أسلوب التحذير بأنه: "اسم منصوب معمول للفعل "أُحَذِّرُ" المحذوف ونحوه، ومنه قول الشاعر:
بَيْنِي وَبَيْنَكَ حُرْمَةٌ *** اللَّهَ فِي تَضْيِيعِهَا
بنصب لفظ الجلالة "اللَّهَ" بعامل محذوف تقديره: احْذَر الله، أو اخْشَه، أو اتَّقِه، أو نحو ذلك.
ولأسلوب الإغراء صُوَر مختلفة، منها: صورة الأمر، كالذي في قول الشاعر:
وَاحْذَرْ مُصَاحَبَةَ الدَّنِيِّ فَِإِنَّهَا *** تُعْدِي كَمَا يُعْدِي الصَّحِيحَ الأَجْرَبُ
ومنها صورة النهي، كقول الأعرابي في لُغته وقد فتنته:
لاَ تَلُمْنِي فِي هَوَاهَا *** لَيْسَ يُرضِينِي سِوَاهَا
ومنها الصورة المبدوءة بالضمير "إيَّاك" وفروعه الخاصة بالخطاب، غير أنَّ الكثير من الصور السالفة لا يَخضع لأحكام هذا الباب، ولا تَنطبق عليه ضوابطه النحويَّة وقواعده؛ لأنَّ هذه الضوابط والقواعد والأحكام، لا تَنطبق إلاَّ على أنواع اصطلاحيَّة معيَّنة، وهي المقصودة من هذا الباب بكلِّ ما يَحويه؛ لأنها تشتمل على اسم منصوب يُعرَب مفعولاً به لفعلٍ محذوف، منها:
نوع يقتصر فيه على ذِكْر المحذَّر منه فقط، كأن تقول محذِّرًا الطفل من النار: "النارَ"، وهذا التعبير حُذِف فيه شيْئان: الفعل الناصب للمفعول النار، والذي حُذِف جوازًا تقديره: "احْذَر"، أو شيء نحو هذا، مثل: "اجْتَنِب" حسب السياق، والثاني: الفاعل المحذوف الذي تقديره "أنت"[9].
ونوع يشتمل ذِكْر المحذَّر منه اسمًا ظاهرًا؛ إمَّا مُكررًا، أو معطوفًا، فالأوَّل مثل: "الخيانةَ الخيانةَ"، والثاني مثل: "الظلمَ والبَغيَ"، وحكم هذا النوع نصب الاسم في الصورتين كليهما بعاملٍ محذوف مع مرفوعه؛ أي: فاعله.
قسم ثالث يشتمل على ذِكْر اسم ظاهر مختوم بكاف الخطاب، نحو: "يَدكَ يدكَ"، وهناك أقسام أخرى لا يتَّسع المجال لذِكرها، والشاهد عندنا أنَّ هذا الأسلوب مما تواتَر القول فيه بالحذف عند النحاة، وكل ما قيل من أحكام نحويَّة عن التحذير ينطبق على أسلوب الإغراء، إلاَّ أنَّ هذا الأخير في مقابل الآخر من حيث معناه؛ لأنه يدلُّ على تنبيه المخاطب على أمرٍ محبوب، ويُنصب بعاملٍ محذوف تقديره: "الْزَم"، أو نحو ذلك.
الحذف في باب الاختصاص، ويكون الاختصاص بإيراد جملة اعتراضيَّة لا محلَّ لها من الإعراب، وهي على ثلاثة صُوَر في الأشهر، يكون فيها الفعل محذوفًا حذفًا واجبًا، فيَنصب ما بعده، أو يُبنى على الضمِّ في محل نصب، فأمَّا القسم الذي يُبنى على الضم، فهو في نحو: "أنا أدافع - أيها الجندي - عن وطني، وبُني لشَبهه بالمنادى لفظًا، وموضعه النصب بفعلٍ واجب الحذف، فإذا قلت: أنا أفعل كذا أيها الرجل، فتقدير عامله: أَخُصُّ بذلك أيها الرجل، والمراد بأيها المتكلم نفسه، وأمَّا القسم المعرب نصبًا، وهو المضاف وذُو الألف واللام - المعرف بـ"أل"، نحو: "نحن - العرب - أقْرَى الناس للضيف"، فنحن مبتدأ وخبره أقرى الناس، والعرب منصوب بفعلٍ واجب الحذف تقديره: "أخُصُّ"، وكذلك المضاف، نحو: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((نحن - معاشرَ الأنبياء - لا نُورَث))، "فنحن" مبتدأ وخبره "لا نورث"، و"معاشر الأنبياء" مفعول بفعلٍ واجب الحذف[10]، ومثل ذلك أيضًا ما أنشدتْه هند بنت أبي عتبة متمثِّلة به يوم أُحُد[11]:
نَحْنُ - بَنَاتِ طَارِقْ *** نَمْشِي عَلَى النَّمَارِقْ[12]
فقولها: "بنات" مفعول به لفعلٍ محذوف تقديره: "أخصُّ"، وعلامة النصب هنا في "بنات" الكسرة النائبة عن الفتحة؛ لأنها جمْع مؤنث سالِم.
وبالإضافة إلى هذه المواضع التي ذُكِرَت، فهناك مواضع أخرى يذكرها النحاة، خصوصًا في الأبواب التي تتعلَّق بالترخيم - وإن كان لا يترتب عليه أيُّ أثرٍ نحوي، وكذا باب الإضمار، فالإضمار: مصدر من ضَمُرَ يَضْمُرُ إِضْمَارًا، والإضمار لغة: هو الإخفاء والتغييب؛ قال صاحب اللسان: "أَضْمَرْتُ الشيء: أَخْفَيته، وأَضْمَرَتْه الأَرضُ: غَيَّبَتْه؛ إمَّا بموت، وإمَّا بسَفَرٍ؛ قال الأَعشى:
أُرَانَا إِذَا أَضْمَرَتْكَ الْبِلاَ *** دُ نُجْفَى وَتُقْطَعُ مِنَّا الرَّحِمْ
أراد: إذا غيَّبتْكَ البلادُ.
والإضمار، وقد يُحيل الإضمار كذلك على الضآلة والخَفاء والاستتار، يُقال: أضمرت السرَّ، إذا أخفيْته وكتَمته.
إذًا الإضمار هو الإخفاء والتغييب، فأضمَر الشيء بمعنى أخفاه وغيَّبه، وهذا يعني وجود هذا الشيء أصلاً، وإنما غُيِّب لغاية وأُخفِي لنكتة ما، وهذا كثير عند النحاة في أبواب النحو:
أمَّا الضمير اصطلاحًا، فهو يفيد ما يفيده المعنى اللغوي؛ وذلك لأنَّ الضمير من قولهم: "أضمَرت الشيء إذا سترته وأخفَيْته"، ومنه قولهم: "أضمَرت الشيء في نفسي، أو من الضمور وهو الهُزال؛ لأنه في الغالب قليل الحروف، ثم إنَّ تلك الحروف الموضوعة له غالبًا مهموسة - وهي التاء والكاف والهاء - والهمْس هو الصوت الخفيّ"[13].
وهو الاسم المتضمن للإشارة إلى المتكلم أو المخاطب أو الغائب، بعد سبْق ذِكره لفظًا أو تحقيقًا أو تقديرًا، أو معنًى أو حكمًا، وقد فرَّق الزركشي بين الحذف والإضمار، واشترَط في المضمَر بقاء الأثَر المقدَّر في اللفظ، في حين لا يُشترط ذلك في المحذوف، وذكَر أنه "لا بدَّ أن يكون فيما أُبْقِي دليلٌ على ما أُلْقِي"[14]، وعليه فإنَّ الإضمار إسقاطٌ لعنصر ما مع الاحتفاظ به في الذهن.
أمَّا الضمير عند النحويين، فهو أحد المعارف السبعة، وهو اسم جامد يدلُّ على متكلم: "أنا، ياء المتكلم"، أو مخاطب: "أنت، أنتم"، أو غائب: "هو، هما"، وهو يُذكَر في باب الأفعال، وقد قسَّم النحاة الضمير بناءً على عدة اعتبارات، والمهم عندنا في هذا البحث هو ما يتعلَّق بالضمير، من حيث ظهوره في الكلام وعدمه؛ إذ إنه بناءً على هذا الاعتبار ينقسم إلى بارز ومُستتر، فأمَّا البارز فهو ماله صورة في اللفظ: كتابة ونُطقًا، والمُستتر هو ما يكون خفيًّا في النُّطق والكتابة[15]، مثل قولنا: "ساعِد غيرك"، فالفاعل هنا ضمير مستتر تقديره: "أنت"، وإنما سُمِّي ضميرًا؛ لأنه يُضمَر، ويُخفى ولا يُذْكر.
الاستتار: جاء في اللسان "سَتَر" ما يلي: ستَر: سَتَر الشيء، يَسْتُرُه ويَسْتِرُه سَتْرًا وسَتَرًا: أخفاه؛ أنشَد ابن الأعرابي: ويَسْتُرُون الناسَ مِن غير سَتَر، والسَّتَر بالفتح: مصدر سَتَرْت الشيء أَسْتُرُه، إذا غَطَّيْته فاسْتَتَر هو، وتَسَتَّرَ؛ أَي: تَغَطَّى، وفي الحديث: ((إنَّ الله حَيِيٌّ سِتِّير، يحب السَّتر)).
سِتِّيرٌ: فَعِّيلٌ بمعنى فاعل؛ أَي: من شأْنه وإرادته حبُّ الستر والصَّوْن.
أما من الناحية الاصطلاحيَّة عند النحويين، فهو مصطلح يُطلق على ضمائر الرفع، والاستتار لا يتعلَّق به كثيرٌ من النِّقاش المحتدَم، خاصة في الحذف والاستتار.
ووَفْق ما تقدَّم نجد أنَّ الإضمار والاستتار يشتركان في المعنى اللغوي، بيد أنَّ الاستتار جزءٌ من الإضمار، والإضمار جزءٌ من الحذف، أمَّا العلاقة بين الاستتار والحذف، فتكمُن في أنَّ "الاستتار يكون في ضمائر الرفع، ويكون الحذف في أيِّ جزءٍ من أجزاء الجملة"، مع أنَّ في الحذف والاستتار إكمالَ النص ذهنيًّا، وهذا دليلٌ على أنَّ عنصرًا ما ليس موجودًا، مع احتياج الجملة إليه؛ سواء أكانت اسميَّة أم فعليَّة؛ لأنها قائمة على الفائدة، وما دام الموقف اللغوي يتطلَّب الإفادة عن طريق تقدير المحذوف، فلا بدَّ من تقديره لاكتمال المعنى، وقد سُمِّي عدم وجود الضمير استتارًا ولَم يُسَمَّ حذفًا؛ "لأنَّ الاستتار على تقدير الوجود، والحذف على تقدير عدمه"، فهم يقولون بوجودها مُختفية؛ لتكون المطابقة والرَّبط بها مكفولين؛ إذ لا بدَّ من ضمان توفير القرائن التي تدلُّ على المعنى، ولو قالوا بحذْفها، لكانت هي نفسها في حال الحذف بحاجة إلى قرينة تدلُّ عليها؛ إذ لا حذْفَ دون قرينة، ومن أجْل ذلك فالحذف يحتاج إلى قرينة تدلُّ على المحذوف[16].
المطلب الثاني: أقوال النحاة في وقوع حذف الفاعل:
لقد اختَلف النحاة قديمًا حول مسألة حذف الفاعل، فأجازه قومٌ مطلقًا، ومنَعه قومٌ وشدَّدوا في ذلك، وتوسَّط قومٌ آخرون وأجازُوه بشروط، كأن تدلُّ عليه قرينة معيَّنة، ومنَعوه إذا انتَفى وجود ذلك، وهذا تلخيص مُوجَز لِمَا قالوه وذهبوا إليه:
القسم الأول: وهم الذين يمنعون حذف الفاعل، ولا يُجيزون ذلك إلاَّ في مواضع سنذكرها؛ وذلك لأنهم يرون أنَّ الفاعل من العُمَد التي لا يستقيم الكلام دونها، كما أنَّهم قد أجازوا التقدير في المصدر المؤول وجعلوه فاعلاً، والذي دعاهم إلى ذلك قولُهم بمَسِيس حاجة الفعل للفاعل؛ كما قال صاحب النحو الوافي: "وقد دعاهم إلى تقدير "أن" - يقصد المصدر المؤول - حاجة الفعل الذي قبلها إلى فاعل"[17]، وقال أيضًا: بعد أن تحدَّث عن امتناع حذفه: "لأنه - أي الفاعل - جزءٌ أساسي في جملته، لا تَستغني الجملة عنه لتكملة معناها الأصيل مع عامله؛ لذا لا يصحُّ حذفه"[18].
القسم الثاني: وهم قوم أجازوا حذفَه مطلقًا إذا وُجِد ما يدلُّ عليه، وممن قال بذلك "الكسائي ومَن نحا نحوه"[19]؛ كقوله - تعالى -: (كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ)[القيامة: 26]؛ أي: بلَغت الرُّوح، وقوله: (حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ)[ص: 32]؛ أي: الشمس، وقوله: (فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ)[الصافات: 177]، يعني العذاب؛ لقوله قبل هذه الآية: (أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ)[الصافات: 176].
وقد ردَّ أصحاب القول الأول على أصحاب هذا القول، وقالوا بأنَّ هذا الحذف ظاهري فقط.
القسم الثالث: وهؤلاء يُمكن أن نَسِمَهم بالوسطيين؛ كما أشار إلى ذلك خالد بن عبدالكريم بسندي[20]؛ لأنهم لَم يمنعوا حذف الفاعل الْبَتة، ولَم يُجيزوه إلاَّ مع قرينة، وقالوا بأن المنع من حذفه، إنما يكون بغير دَلالة تدلُّ عليه، وهذه الدَّلالة؛ إمَّا حاليَّة، أو مقاليَّة، فإذا وُجِدت إحداهما، فلا يمتنع جوازُه، ويدلُّ على حذفه قوله - تعالى -: (كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ)[القيامة: 26]، فحُذِف فاعل "بلَغَت" والغرض النَّفْس، وليس مضمرًا؛ لأنه لَم يتقدَّم له ظاهر يفسِّره، وإنما دلَّت القرينة الحاليَّة عليه؛ لأنه في ذِكر الموت، ولا يَبلغ التراقي عند الموت إلاَّ النفس".
والذي يُمكن أن نَستخلصه أنَّ الفاعل عُمدة من عُمَد الكلام؛ إذ إن كلَّ فعلٍ يحتاج إلى فاعل، ولكنَّه قد يُحذف جوازًا أو وجوبًا في مواطنَ لداعٍ يقتضي ذلك، وهذه المواطن هي:
أن يكون عامله مبنيًّا للمجهول، نحو: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)[البقرة: 183]، وأصل الكلام كَتَبَ الله عليكم، ثم بُنِي الفعل للمجهول وجوبًا، وحلَّ محلَّه نائبُه، وهذا المثال يدخل في باب ما لَم يُسَمَّ فاعله؛ كما يُسميه بعض القُدماء، أو نائب الفاعل؛ كما يُسميه آخرون.
أن يكون الفاعل واو جماعة، أو ياءَ مخاطبة، وفِعْله مؤكَّد بنون التوكيد، نحو: "أيها الأبطال، لتَهْزِمُنَّ أعداءَكم"، في واو الجماعة.
ونحو: " لتُطِيعِنَّ ربَّكِ أو لتَنْدمِنَّ" في ياء المخاطبة.
فالفاعل في الحالتين كلتيهما محذوفٌ؛ لأن الفاعل جاء هنا واوَ جماعةٍ، وياء مخاطبة، فنقول مثلاً في إعراب "لتَهْزِمُنَّ": فعل مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال: "نون الرفع، ونون التوكيد الثقيلة المكوَّنة من نونين"، والواو المحذوفة - لالْتِقاء الساكنين - فاعل مبني على السكون في محل رفع، والنون حرف توكيد مبني على الحذف لا محلَّ له من الإعراب[21]، والشيء نفسه بالنسبة لـ"لتُطِيعِنَّ"، فأصلُه "تُطِيعِن - نَّ"، اجْتَمَعت ثلاث نونات، فحُذِفت نون الفعل، فصارَت: "تُطِيعِنَّ"، فالْتَقى ساكنان: ياء المخاطبة، والنون الأولى من التوكيد، فحُذِفت الياء؛ لدَلالة الكسرة السابقة عليها، وهناك من أضاف حالة أخرى، وهي:
أن يكون عامله مصدرًا، نحو: "إكرامٌ الوالدَ مطلوبٌ"، والحذف هنا جائز، مع أنَّ النُّحاة اختَلفوا في المصدر: أهو جامد، "فحين ذاك لا يتحمَّل ضميرًا مستترًا فاعلاً، إلاَّ إذا كان نائبًا عن فاعله المحذوف"؟ أم غير جامد؟ وحين ذاك فهو مؤوَّل بمُشتق مُحتمل للضمير.
أن يحذف لداعٍ بلاغي، شرْط وجود دليلٍ يدلُّ عليه.
وأضاف الكسائي موضعًا رابعًا، وهو أنَّ الفاعل يُحذف من الفعل الأول في باب التنازع، واختار الفرَّاء مَذهبه، وأضاف موضعًا خامسًا، وهو الفعل "حاشا" الذي لا فاعلَ له، وهناك مواضع أخرى في الاستثناء المفرَّغ، نحو: ما قام إلاَّ هند، وفي أفْعِل بكَسْر العين في التعجُّب إذا دلَّ عليه متقدِّم، نحو: قوله - تعالى -: (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ)[مريم: 38]، وفي نحو: ما قام وقعَد إلاَّ زيد؛ لأنه من الحذف لا من التنازع، فالإضمار في أحدهما يُفسد المعنى؛ لاقتضائه نفْيَ الفعل، وإنما هو منفي عن غيره، مُثبت له.
فهذه الحالات هي التي يجوز فيها حذْفُ الفاعل؛ أي: إنَّ الأصل فيه الذِّكر أو الاستتار جوازًا، أو وجوبًا، ولكن قد يُحذف إذا طرَأ عليه طارئ، وهذا الطارئ هو الحالات التي ذُكِرت، وما عدا ذلك، فإنه يُمتنع حذف الفاعل حسب قول المانعين.
المبحث الثالث: الحذف عند أهل البلاغة:
إنَّ الحذف من الأبواب اللطيفة والبديعة عند أهل اللغة العربية؛ حيث اعتبروه من المسائل التي تُكسب الكلام جمالاً وروعة، وتَمنحه جودة وبلاغة، بل إنه من الأساليب التي لا يُحسنها إلا المتمكِّنون في اللغة والبارعون في أساليبها، حتى إنَّ إمام البلاغة عبدالقاهر الجرجاني قال عن هذا الباب: "هو باب دقيق المَسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسِّحر؛ فإنك ترى به ترْكَ الذِّكر أفصحَ من الذِّكر، والصَّمْت عن الإفادة أزيدَ للإفادة، وتَجدك أنطْقَ ما تكون بيانًا إذا لَم تُبِن"[22].
ويَقصد الجرجاني بهذا القول أنَّ باب الحذف بابٌ دقيق لطيفٌ، يُكسب الكلام قوَّةً ومَتانة، يكون أشبه ما يكون بالسِّحر الذي يُبهر النفوس، ويذهب بالفكر مذاهبَ عجيبة لطيفة، والسر في ذلك - كما أشار الإمام - أنَّ ترْك الإفصاح أبلغُ من الإفصاح نفسه، وأنَّ التلميح أبلغُ من التصريح، بل إنَّك تجد في بعض الأحايين السكوت أبلغَ جوابًا، وأحسن بيانًا، ثم سرَد الجرجاني مجموعة من الأمثلة الدالة على ما ذكَره، وأضاف قائلاً ومُعلِّقًا: "فتأمَّل الآن هذه الأبيات كلها، واسْتَقْرِها واحدًا واحدًا، وانظر إلى موقعها من نفسك، وإلى ما تجده من اللطف والظرف، إذا أنت مَرَرتَ بموضع الحذف منها، ثم قَلبت النفس عما تجد، وألطَفْتَ النظر فيما تحسُّ به، فإنَّك تعلم أنَّ الذي قلت كما قلت، وأنَّ رُبَّ حذفٍ هو قِلادة الجِيد، وقاعدة التجويد"[23].
كما أنَّ الحذف من الأساليب التي اتَّخذتها العرب في كلامها؛ لتزيينه وتنميقه، وجَعْله أبلغَ تأثيرًا، وأكثر تعبيرًا، وهذا صاحب "فقه اللغة وسر العربية" قد خصَّص فصلاً لذلك، وَسَمَه بما يأتي: "فصل مُجمل في الحذف والاختصار"، وأشار أنه من سنن العرب المتبعة، والسنة - كما هو معلوم - الطريقة والمنهج المتَّبع والمُحْتذى - وقد سرَد في هذا الباب بعضَ المواضع التي حَذَفت فيها العرب حذفًا حسنًا وبديعًا.
والحذف عند أهل البلاغة قسمان:
قسم يَظهر فيه المحذوف عند الإعراب، كقولهم: "أهلاً وسهلاً"، فإن نَصْبَها يدلُّ على ناصب محذوف يُقدَّر بنحو: "جِئت أهلاً، ونزَلْت مكانًا سهلاً"، وليس هذا القسم من البلاغة في شيء"[25]، يعني أنَّ هذا القسم إنما يُعنى به علماء اللغة الذين يَدرسون العلاقات التركيبيَّة بين الكلمات، ويُقَدِّرون المحذوفات حسب ما يقتضيه الإعراب، ويُحتِّمه موقع الكلمة من الإعراب.
وقسم آخر لا يَظهر فيه المحذوف بالإعراب، وإنما تَعلم مكانه إذا أنت تصفَّحت المعنى وجَدته لا يتمُّ إلاَّ بِمُراعاته، نحو: "يعطي ويمنع"؛ أي: يعطي ما يشاء، ويَمنع ما يشاء، ولكن لا سبيلَ إلى إظهار ذلك المحذوف، ولو أنت أظهرته، لزَالت البهجة، وضاع ذلك الرَّونق"[26]، وهذا هو القسم الذي تناقشه البلاغة، ويَظهر فيه دقائق البيان، ومكنون التعبير، وروائع الأسلوب.
وما ذكرناه آنفًا لا يَعني عدم وجود شيءٍ يدل على وجود الشيء المحذوف، وإلاَّ كان ذلك تعمية وتضليلاً - كما ذكَر د. يوسف الصميلي في تعليقه على كلام الجرجاني، بعد أن نقَله من الدلائل - حيث قال: "مع ذلك فإنَّ الأصل في جميع المحذوفات - حتى وإن تعلَّق الأمر بالبلاغة على مختلف ضروبها - أن يكون في الكلام ما يدلُّ عليها، وإلاَّ كان الحذف تعمية وإلغازًا، لا يُصار إليه بحال، ومِن شرْط حُسن الحذف أنه متى ظهَر المحذوف، زال ما كان في الكلام من البهجة والطلاوة، وصار إلى شيءٍ غَثٍّ لا تَناسُبَ بينه وبين ما كان عليه أولاً"[27].
وأما عن أغراض الحذف عند البلاغيين، خصوصًا ما يتعلَّق بالمسند إليه، والتي تُعَدُّ من لطائف هذا الباب أمور، منها:
1- ظهور المحذوف بدلالة القرائن عليه، مثل قوله - تعالى -: (فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ)[الذاريات: 29]؛ أي: أنا عجوز عقيم.
2- إخفاء الأمر عن غير المخاطب، نحو: " أقبل"، تريد - مثلاً - عليًّا.
3- تَيَسُّر الإنكار عند الحاجة، مثل: "لئيم خسيس" بعد أن ذَكَرت شخصًا معيَّنًا تُنكر عليه أمرًا.
4- الخوف من فَوات فرصة سانحة، كقولك تُنَبِّه صيَّادًا: "غزال"؛ أي: هذا غزال، فاصْطَدْه، أو نحو ذلك.
5- اختبار تَنَبُّه السامع، أو مقدار تَنَبُّهه، نحو: "نوره مُستفاد من نور الشمس، أو هو واسطة عقد الكواكب"، تقصد القمر في كلا الحالتين.
6- ضِيق المقام عن إطالة الكلام بسبب تضجُّر أو توجُّع، كقول أحدهم:
قال:
كَيْفَ أَنْتَ قُلْتُ: عَلِيلُ *** سَهَرٌ دَائِمٌ وَحُزْنٌ طَوِيلُ
7- المحافظة على السجع، نحو: "مَن طابَت سريرتُه، حُمِدت سيرته"؛ أي: لَم يَقُل: حَمِد الناس سيرته؛ للمحافظة على السجع المستلزِم رفْعَ الثانية.
8- المحافظة على القافية، كقول أحدهم:
وَمَا المَالُ وَالأَهْلُونَ إِلاَّ وَدَائِعُ *** وَلاَ بُدَّ يَوْمًا أَنْ تُرَدَّ الوَدَائِعُ
وذلك أنَّ "ودائع" الأولى جاءَت مرفوعة، فحُذِف "الناس" في الشطر الثاني؛ حتى تأتِيَ مرفوعة، وإلاَّ جاءَت منصوبة؛ إذ إن أصلَ الكلام هو: "يَرُدُّ الناسُ الودائعَ".
9- المحافظة على الوزن، كقوله:
عَلَى أَنَّنَي رَاضٍ أَنْ أَحْمِلَ الْهَوَى *** وَأَخْلُصَ مِنْهُ لاَ عَلَيَّ وَلاَ لِيَا
أي: لاَ لِي شيء، ولا عَلَيَّ شيء.
10- كون المسند إليه معيَّنًا بالحقيقة، مثل قوله - تعالى -: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)[الأنعام: 73]، أو ادِّعاءً، نحو: وهاب الألوف؛ أي: فلان.
11- الخوف منه أو عليه، وهذا في باب الفاعل ونائبه، نحو: ضُرِبَ سعيدٌ.
12- تكثير الفائدة، نحو: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)[يوسف: 18].
بالإضافة إلى هذه الأغراض هناك أغراض أخرى بلاغيَّة ذكَرها النحاة وأهل البلاغة، منها: العِلم به، أو الخوف عليه، وكذا التحقير والإعظام، كما أنَّ الحذف قد يَرِدُ عند البلاغين في مواطن أخرى، مثل: "باب المجاز"؛ كقوله -تعالى- في سورة يوسف: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ)[يوسف: 82]؛ إذ الحذف عند بعضهم نوعٌ من أنواع المجاز، وهو ما ذهَب إليه سيبويه وغيره من أهل النظر[28].
والحذف هنا لا يُنسب إلى الكلمة المجاورة، وإنما إلى الجملة ككل، وإلاَّ كان ذلك لا يُفيد الكلام شيئًا؛ كما قال الإمام الجرجاني: "إنَّ من حقِّ المحذوف أو المَزيد أن يُنسب إلى جملة الكلام، لا إلى الكلمة المجاورة، فتقول في قوله - تعالى -: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) في الكلام حَذْفٌ، والأصل: "أهل القرية"؛ تعني: حُذِف من بين الكلام"[29].
ويذكر أهل البلاغة الحذف أيضًا في باب الإيجاز، ويجعلونه القسمَ الثاني من هذا الأخير، ويسمونه بإيجاز الحذف، ويُشترط فيه أن يكون في الكلام ما يدلُّ على المحذوف، ومن أمثلته ما جاء في قوله - تعالى -: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ)[القصص: 25].
حيث حُذِفت هنا جُمَلٌ برُمَّتها، وتقدير الكلام: فذهَبَتا إلى أبيهما، وقصَّتا عليه ما كان من أمر موسى، فأرسل إليه، (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ)، وطريق الإيجاز هنا هو الحذف، وهذا النوع من أهمِّ ما تهتمُّ به البلاغة في باب الحذف؛ لِمَا يتضمَّنه من أسرار بلاغيَّة بديعة جليلة، تُدلِّل على سُمو هذه اللغة وعُلو شأْنها - أسلوبًا وبلاغة، خصوصًا إذا كانت منظومة في الخطاب الذي أعْجَز البُلغاء والفُصحاء وأفْحَمَهم.
______________
[1] البلاغة الواضحة - الشرح؛ على الجارم ومصطفى أمين، دار المعارف، ط 1999، ص241.
[2] يُنظر: لسان العرب؛ ابن منظور: محمد بن مكرم، دار صادر للطباعة والنشر، ط 4، سنة 2005، مادة "حذَف".
[3] شرْح ابن عقيل على ألفيَّة ابن مالك؛ محمد محيي الدين عبدالحميد، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط20، رمضان 1400هـ - يوليو1980م، ج1، ص243.
[4] انظر: إعراب القرآن؛ الزجاج؛ تحقيق إبراهيم الأبياري، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، القسم الثاني، ص 743.
[5] شرح المفصل؛ لابن علي بن يعيش النحوي، المطبعة المنيرية، مصر، ط 1، ج1، ص 94.
[6] شرح المكودي على الألفيَّة في عِلْمَي الصرف والنحو، أبي زيد عبدالرحمن بن صالح المكودي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ص35.
[7] قوله: "دَنِفْ" بمعنى مريض؛ قال صاحب اللسان: "الدَّنف: المَرَضُ"، ورجل دَنِفٌ؛ أي: ثقيل من المرض؛ انظر: اللسان، وأساس البلاغة؛ للجوهري"، مادة "دَنَفَ".
[8] جامع الدروس العربية؛ مصطفى الغلاييني؛ تحقيق عبدالمنعم خليل إبراهيم، دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان، 2009، ط9، ج3، ص 110.
[9] النحو الوافي؛ عباس حسن، مطبعة المعارف، مصر، الطبعة الثالثة، ج4، ص 127.
[10] انظر: شرح المكودي على الألفيَّة في عِلْمَي الصرف والنحو، أبي زيد عبدالرحمن بن صالح المكودي، ص 158 - 159.
[11] انظر: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب؛ ابن هشام الأنصاري؛ تحقيق عبداللطيف محمد الخطيب، مكتبة التراث العربي، الكويت ج5، ص60.
[12]هذا الشعر لهند بنت بياضة بن رياح بن طارق الإيادي، قالتْه حين لَقِيت إياد جيش الفرس في الجزيرة، وقد تمثَّلت به هند بنت عتبة يوم أُحُد، مُحَرِّضة المشركين على قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - وهند بنت عتبة هي أُمُّ معاوية، أسْلَمت يوم الفتح - رضي الله عنها - وعن معاوية.
[13] يُنظر: حذف الفاعل واستتاره بين التنظير والواقع الاستعمالي، بحث من إعداد الدكتور: خالد بن عبدالكريم بسندي، المملكة العربية السعودية الرياض، جامعة الملك سعود - قسم اللغة العربية، ص 5.
[14] يُنظر: البرهان في علوم القرآن؛ الزركشي، والذي قدَّم له وعلَّق عليه: مصطفى عبدالقادر، دار الكتب العلميَّة، بيروت، ط1، 1988م.
[15] يُنظر: النحو الوافي ج1، ص 119 - 120.
[16] يُنظر: حذف الفاعل واستتاره بين التنظير والواقع الاستعمالي، بحث من إعداد الدكتور: خالد بن عبدالكريم بسندي المملكة العربية السعودية الرياض، جامعة الملك سعود - قسم اللغة العربية، ص6.
[17] النحو الوافي؛ عباس حسن، ج2، ص 66.
[18] النحو الوافي، عباس حسن، ج2، ص 69-70.
[19] يُنظر: البرهان؛ للزركشي، ج3، ص 144.
[20] حذف الفاعل واستتاره بين التنظير والواقع؛ خالد بن عبدالكريم بسندي، ص9.
[21] حُذِفت نون الرفع، فصار الفعل تَهْزم - و- نَّ، فالتقى ساكنان: وواو الجماعة، والنون الأولى من التوكيد؛ لدَلالة الضمة السابقة عليها، فصار تَهْزِمُنَّ؛ انظر: التطبيق النحوي؛ لعبده الراجحي، دار النهضة العربية، بيروت، لبنان، ط1، سنة: 1426 هـ - 2004م.
[22] دلائل الإعجاز؛ الإمام عبدالقاهر الجرجاني؛ شرح وتعليق د. محمد عبدالمنعم خفاجي، دار الجيل، ط1، 2004م -1424هـ ص131.
[23] نفسه، ص 134.
[24] انظر: فقه اللغة وسر العربية؛ أبو منصور عبدالملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي؛ تحقيق ياسين الأيوبي، المكتبة العصرية ط: الثانية، 1420 هـ - 2000م.
[25]جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع؛ السيد أحمد الهاشمي؛ ضبْط وتحقيق وتعليق: د يوسف الصميلي، المكتبة العصرية، ط1، سنة 1999، ص 103.
[26] جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع؛ السيد أحمد الهاشمي، ص 103.
[27] جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، السيد أحمد الهاشمي، ص 103.
[28] انظر: دلائل الإعجاز؛ للجرجاني ص 212، وقد ذكَره في فصل: هذا فن من المجاز لَم نَذكره فيما تقدَّم، وانظر: كذلك البُرهان؛ للزركشي، ج3، ص102.
[29] أسرار البلاغة؛ عبدالقاهر الجرجاني، قرَأه وعلَّق عليه محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، ط1، سنة 1991، ص 420.
[30] ظاهرة الحذف في الدرس اللغوي؛ طاهر سلميان حمودة، كلية الآداب، جامعة الإسكندرية، طبع ونشر الدار الجامعية، 1998، ص 4.